لايمكن للحياة أن تتكوّن من النكبات فقط ، ففيها النهار والليل ، وفيها إشراق الشمس وتلبّد الغيوم الممطرة ، وفيها نضارة الشباب وذبول الشيخوخة ، وفيها المرض الذي ينتهي احياناً بنعمة الشفاء. ضمن هذه الكلمات من الممكن وصف حياة سيرة استثنائية لامرأة مثل مليكة أوفقير صاحبة السيرة السيرة الذاتية لرواية "السجينة"، والتي تُعتبر ضمن أكثر الكتب مبيعا منذ عدة أعوام. حكت مليكة قصتها للكاتبة ميشيل فيتوسي التي التقت بها في عيد النيروز الفارسي عند أحد الأصدقاء، وكانت فيتوسي قد سمعت نتفا من حكاية المرأة النحيلة السمراء، التي رغبت بقوة أن تقتحم عالمها السري وتكشف كل أسراره، باحت مليكة بكل أسرار المعاناة لفيتوسي التي صاغت كل ذلك لتصل إلينا رواية "السجينة" بكل ما فيها من غرابة وتناقض، ولتأخذ مكانها بين أدب السيرة، قارئ "السجينة" يقع في حيرة، ويطرح أسئلة حول الشخصية التي طغت على الكاتب، خصوصا وأن أوفقير وفيتوسي من الجيل نفسه، لكن حياتهما تختلف إلى درجة التناقض، امرأة عربية مسلمة (سجينة – طليقة) مع كاتبة فرنسية حرة، مما أدى إلى تمازج سحر الشرق وغرابته، مع واقعية الغرب وجرأته، لنقع تحت وطأة ما باحت به "السجينة". حياة الأميرات "عندما انتزعوني من حضن أمي جردوني إلى الأبد من الطمأنينة والسكينة، هجروا طفولتي"، هذا ما تكشف عنه مليكة بعدما انتقلت للحياة في قصر الملك محمد الخامس لتتربى برفقة ابنته أمينة، لأنها من عمرها، ولأن الملك كان يحب ويكنّ إعجابا شديدا بوالدة مليكة الجميلة والفائقة الحسن. وعلى الرغم من حب الملك لمليكته وتدليلها المبالغ فيه، فهي قد هيّمن عليها إحساس بالوحدة والظلم، نتيجة فراقها عائلتها، ووقوعها تحت ثقل التقاليد الملكية المتشددة، فهي ليست من السلالة الملكية، وفي الوقت عينه يفرض عليها ما يفرض على الأميرات من مراسم وتقاليد دون أن يكون بمقدورها متابعة حياتها بحرية، فهي لا ترتدي ما تشاء، ولا تذهب إلى حيث تريد، ولا تتواصل مع عائلتها كما ينبغي، كل ذلك خزن في داخلها شحنات من الحزن والرفض والتحدي لتقرر في سن السابعة عشرة العودة إلى أسرتها بعد تسع سنين من تبوأ الحسن الثاني العرش. انقلاب أوفقير محاولة الجنرال أوفقير (والد مليكة الحقيقي) القيام بانقلاب في 16 أب/ أغسطس العام 1972، أدى إلى حدوث تغيرات جذرية في حياة عائلته أيضا، وبالنسبة إلى مليكة تكمن المأساة بشكل فجائعي، ذلك أن والدها الحقيقي حاول قتل والدها بالتبني، ونتيجة فشل الانقلاب قضى الجنرال أوفقير منتحرا بإطلاق الرصاص على نفسه - كما تقول الروايات - أو أعدم كما ثبتت مصادر أخرى، وقام الملك بنفي زوجته وأولادها الستة إلى الصحراء يعانون هناك من شظف العيش والعزلة والظلم والذل بعد حياة تميزت بالرفاهية. لكن سرد مليكة لقصتها يحمل بعض المفارقات الغربية، ولابد من ذكر بعضها، فهي مثلا تصف خوف الشعب من والدها ونعته بالجلاد: تقول في وصف "انقلاب الصخريات" في العام 1971: "بعد وقوع أعمال الشغب والاحتجاج عمد أبي إلى إخمادها بالقوة على الفور، وكان النبذ الذي تعرّضت له في الثانوية يزداد سوءا مع الأيام، ولم يعد الطلاب يهتمون بإخفاء مشاعرهم العدائية نحوي". تلميحات ملكية تذكر مليكة تلميحات غريبة حول تصرفات الملك "محمد الخامس" وإعجابه الشديد بوالدتها، قائلة: "كان يستقبلها بحفاوة بالغة، فهو يرتاح لصحبتها ويستمتع بمجالستها، ولكن من الصعب أن يدع نفسه تحدثه بإقامة علاقة ما مع هذه المرأة المتزوجة"(ص30). نعلم في ما بعد أن الملك مر لزيارتها من دون سابق إنذار كما كان من عادته أن يفعل أحيانا.. أوصلتني قدماي إلى الممر. وإذا بي أرى رجلا غريبا يخرج من المطبخ. أخبرها أنه دخل المطبخ لأنه اشتم رائحة حريق يتصاعد منه، وكان الملك صادقا، لأن الطباخة نسيت إبريق الشاي فوق النار المشتعلة"(ص 31). ولا نعرف إذا كانت هذه الإشارت يبررها اختيار الملك لابنتها مليكة ليتبناها ولتعيش في قصره. وفي حديثها عن الملك الحسن الثاني نعثر أيضا على بعض المواقف المبطنة، مثلا أن يأمرها بالسباحة عارية وهي في الحادية عشرة من عمرها وإزاء رفضها قام بخلع سروالها عنوة. حياة القصر تأخذنا مليكة أوفقير إلى حياة القصور وأسرارها وعوالمها الخفية الغربية إلى حد التناقض والدهشة، فتصف عزلة الحريم والجواري وتسابقهن وانشغالهن بأمر واحد، هو لفت انتباه الملك والاستحواذ على اهتمامه. صياغة فيتوسي تداخلت هنا مع مناخات "ألف ليلة وليلة" خصوصا في وصفها خفايا القصور، ورغد العيش فيها وانفصالها التام عن حياة الشعب، وإلى ما هناك من وصف للعلاقات المتشابكة بين سيدات القصر، وإلى التنافس والمكائد بين الجواري والوصيفات تقول: "الزوجتان الملكتان لا تغادران الحريم الملكي، لذلك كانت أمي تشتري لهما ما تريدان من حوائج وملابس وأدوات تجميل، وكانت الزوجتان تتنافسان على حب الملك. رحلة الانتقام ربما أكثر ما يعنينا في سرد مليكة ذلك الانتقام الفظيع الذي تعرضت له عائلة أوفقير، رحلة عذاب ومعاناة حارقة في ألمها النفسي، وفي مكانها الصحراوي اللاهب، حيث تم نفي العائلة 20 عاما، أمضتها العائلة في مكان تسرح فيه الصراصير والجرذان، يعيشون تحت رحمة الحراس تقول: "كانت حرمتنا منتهكة، وخصوصيتنا مغتصبة، كانوا يحصون علينا أنفاسنا، لقد كنا نرزخ دائما تحت نير الجوع الدائم، ولم نشعر يوما بالشبع" (ص 115). هذا الوصف لآلام السجن وقسوته ومرارة أعوامه تسرده مليكة باسترسال، لا تغفل أدق تفصيلاته من تصوير وسائل معيشة الأسرة في النوم والاستحمام والطعام وحياكة الملابس والتعليم، ولا تغفل خلال ذلك توضيح ما تركته سلوكيات القصر وقوانينه في شخصيتها وتصرفاتها مما جعلها تطبق هذه السلوكيات على إخوتها الصغار خلال رعايتها لهم، واهتمامها بنظافة أجسادهم وطعامهم وتعليمهم. عمر من المعاناة العميقة أمضتها العائلة في مكان لا تنجو منه إلا الأرواح المجاهدة، ولعل هذا ما دفعهم لشق نفق الحرية والخروج من معسكر الموت وللقيام بعملية الهروب. خدمة ( وكالة الصحافة العربية )