إذا كان الفنان التشكيلي السوري همام السيد قد استوحى شخوصه في بداية مسيرته الفنية من مظهر وملامح الشاعر السوري محمد الماغوط وعالمه الشعري المُكهرب بالأسى، فإنه اليوم، وفي معرضه البيروتي بقاعة “أجيال” والمعنون ب”عبثي”، قد تمادى في تخيلاته وتأملاته ليبلور صورة الشاعر ذاته في أكثر من صيغة وصيغة ومن خلال 11 لوحة من الحجم الكبير، ومشغولة بالألوان الزيتية وبمادة الأكريليك والحبر الأسود. تميزت البنية الجسدية ووجوه شخوص الفنان همام السيد منذ بداية حضورها في لوحاته بقسوة رقيقة، إذا صح التعبير، فيها الكثير من الصلابة والكثير من الهشاشة في آن واحد، أما البرق الخافت -ذهابا وإيابا- الذي يجمع بين هاتين الصفتين، أي الصلابة والرقة، فيفسّر الصلة، لا بل يُظهر التواطؤ بينهما مركونا في عيون الشخوص ذاتها، فكما البرق المُتمثل بتيار خاطف تشعّ عيون شخوص الفنان همام السيد. ليست النظرات هي ما يميزها، بل العيون ذاتها، أي تركيبتها العضوية التي لا تشبه فقط عيون الشاعر محمد الماغوط نصف المتخفية تحت قبعته الشهيرة، بل عيون الفنان همام السيد أيضا، عيون ملونة كثيرة الشفافية ورقيقة كنهر ضحل يشي بعبور الأسماك الملونة، والحصى الأملس والبراق. الماغوط، أنت هنا مهما كبرت أحجام اللوحات ومهما تضخمت فيها الشخوص و”تعملقت”، تبقى العيون هي الأهم لأنها تفسر حقيقة معنى حركات وتصرفات ووضعيات الشخوص وتعبر عن حقيقة ما يجري في رؤوسها وقلوبها التي تريد أن تظهر مُتبلدة وغير معنية بما يحصل من حولها، غير أنها لم ولن تنجح في ذلك. يعطي الفنان لهذه اللوحات عناوين لافتة تشير إلى مضمون اللوحة دون أن تخنق خيال الناظر إليها وتحد من تأويله الخاص المنبثق من خلفيته الثقافية، نذكر على سبيل المثال اللوحة التي تحمل هذا عنوان “موسى”، فالشخص في اللوحة يمسك بيد إطار سيارة أسود اللون وبيده الأخرى عصا. من ناحية يمكن أن تدل هذه المفردات البصرية على الثورة والرغبة في التغيير، ومن ناحية أخرى يمكن أن تدل على عكس ذلك تماما، أي يمكن أن تُحيل المُشاهد إلى هذا المثل الشائع “أن يضع المرء العصا في دواليبه”، أي أن يبخس أهمية عمله أو أن يعرقل مساره، ربما كما يفعل الشخص في لوحة الفنان، أما العيون البارقة ذات النظرات الكاملة فتقول شيئا آخر، تقول “لا أبالي، بل أهتم، وأريد ما لا أريد”. هنا يحفر الفنان في خندق التناقضات المليء بالوحل، ولكن ليخرج مع شخوصه، ناجيا منها ومن مفاهيمها وأوهامها التي تتقارع على الساحة العربية لتنشر الموت. يقدم الفنان لوحات أخرى تستحق جميعها الوقوف أمامها والتمعن بما تريد أن تقول لنا، وتحمل هذه العناوين “نوح”، و”دمى”، و”المهرج اليساري” و”على أهبة”، و”القديس جورج” و”برميل متفجر”. يظهر بُعد جديد للأعمال الفنية، إذ تظهر كحالة عامة عندما تتعارض فيها العناوين مع ما يجري فعلا في اللوحات، ويضيف هذا البُعد مسحة هزلية اشتهر بها الفنان منذ بداياته الفنية، فلا “الدمى” بألعاب أو أشخاص سلبهم السلطان أو الطاغية حريتهم، بل هي شخوص يحركها قنوطها الشخصي وليس أي أحد آخر خارج فضائها. ولا “التأهب” حاضر في اللوحة التي تحمل عنوان “على أهبة” ولا “نوح” يبدو ناجيا من الغرق في زورق صغير يحيلنا إلى الهجرات القصرية في لجج البحر، ولا “القديس جورج” في صراع مع التنين، بل في حضرة قطة ناعسة وأليفة. دموع فسفورية يقدم الفنان همام السيد معرضه الجديد بنص قصير، اخترنا منه هذه الكلمات “ها.. وقد استمر العبث مؤتيا ثماره على هذا المشرق التعيس، كرحلة لا تنتهي من تكرار الهرب إلى المجهول، حيث يسطع الماضي بوشاحه المرفرف، يظلل نومنا خوفا علينا من ضربة شمس في ليل تيهنا المكتوب.. نهوى لعبة العبث، لعبة التيه بالطريق المسدود، فذاك الذي يضرب بالعصا.. وهذا الذي تقوقع في مكانه منتظرا من الصخور أن تنقله إلى جديد الأيام، كأنه لم يعرف بأن تلك النظرة المتوسلة لا تُسقط المطر ولا تضيء ظله الذي لا يرى إلاّ من خلاله..”. ويضيف الفنان همام السيد قائلا “فها هي رحلته قد انتهت، ساقطا في حضيضه، صارخا بكل ما حمل، وسقطت معه هويته ومعتقداته ومؤامراته كبرميل متفجر”. قصد الفنان بهذه الجملة الأخيرة أكبر لوحة له في المعرض وأكثرها وطأة على عين المشاهد، تحمل هذه اللوحة عنوان “برميل متفجر”، وما البرميل إلاّ أحد شخوصه وقد صوره الفنان ببلاغة تشكيلية دسمة وهو يهوي تجاه مدينة غلبها الرماد، ثمة زر قميص بلون أحمر يسقط من يده، ربما أراد منه الفنان أن يوقع الالتباس أو الشك في نفس المُشاهد، أو ربما بهدف التندّر على سبب السقوط. تبقى عينا الشخص الأكثر قدرة على التعبير عن هول السقوط، عينين جاحظتين تلمع فيهما دموع متحجرة تذكر بكلمات الشاعر السوري محمد الماغوط “هل أبكي بدموع فسفورية، كي يعرف شعبي كم أتألم لأجله؟”.