في يوم من الأيام، على ضفاف نهر ياباني، كان كاهن بوذي اسمه جيوجي يخطب في جمع من اتباعه. وبينما هو يتحدث حدق مثبتاً نظره على امرأة ضمن حشد المستمعين له امرأة جائعة تحمل طفلاً ناضراً تبدو عليه علامات الصحة والحيوية. فرفع جيوجي عقيرته وهو يشير بإصبعه نحوها، معلناً أن الطفل ما هو إلا روحاً شريرة، وأمر الأم أن تلقي به وتغرقه في النهر. ولما بدت الأم مذعورة واحتضنت طفلها غير مصدقة، أعاد رواية الكيفية الي تجسد بها الطفل وسرد تقمصاته متتبعاً روحه التي أرجعها إلى امرأة ميتة من الأعداء. وحينما اقتنعت المرأة بهذا التعليل، ألقت بطفلها إلى النهر. فرأته حينئذ وقد تحور شكله إلى مسخ بغيض يلعن الكاهن ويلعنها هي نفسها لكشفهما سره. وفيما بين كلمات جيوجي وتصديق تابعته وُلِدت معجزة الأسطورة. يحاول هاروكي موراكامي، بتحويل كلماته من خلال وسيلة اتصال أكثر تقدماً وجعلها أقل إظلاماً إلى حد بعيد يحاول بوعي أن يعيد إحياء طريقة التفاعل بين القارئ والسارد التي تعود بنا إلى تغيير الواقع الأسطوري للأسلاف (كما وُصِفت في "القصص الإعجازية" من الكلاسيكيات البوذية اليابانية). إن مجموعته الحديثة المكونة من أربعة وعشرين قصة قصيرة، لم يصدر الكثير منها من قبل باللغة الإنجليزية أو عُدِلت بصورة كبيرة منذ آخر صدور، تُبين جيداً الخصائص المختلفة لافتتان مؤلفها برواية الحكايات. إن القصص المكتوبة في مراحل مختلفة من حياته، والتي تتضمنها "الصفصافة العمياء، المرأة النائمة"، وتتراوح ما بين القصص الرمزية السياسية إلى نصوص البدايات لرواياته الأخيرة ("الفراشة" مثلاً تشبه كثيراً "الغابة النرويجية") تشترك جميعها في صهر الخيال مع الواقع الذي يشتهر به موراكامي. وما بين الغرابة والشذوذ المتعمد والاستفزاز، تلعب القصص على الأوتار المشدودة ما بين القاص وقرائه، السرد كموضوع للفن وجزء من الواقع اليومي، بطريقة تربط ما بين المتعة والفكر. ومن أجل استدعاء الرابطة القوية مع الأدب الشفاهي والوظيفة التواصلية للفن، يحرص موراكامي على تضمين قصصه في إطار الدور والتكوين الاجتماعي الواضح منصباً نفسه كمؤدٍ أو محاور يتحدث إلى مشاهدين معينين. وغالباً ما يصاحبه التحليل الذاتي المستمر للراوي، الشخص الأول، أو على الأقل شخصية الكاتب/ المستمع الواحد، فنحن نتذكر دائماً استعمالنا المتكرر الذي نقوم به لتفصيل التكوينات بالزيادة أو النقص في واحدة أو أكثر من محادثاتنا اليومية: فمن أجل شرح الحالة المزاجية السيئة لشخص معين؛ نتلهي بالتعرف والاطلاع؛ فبينما تعزف الشخصيات الموسيقى وتسرد حكايات الجان وتلقي الشعر أو القصص ذات المغزى الأخلاقي، فإن القارئ يطلع ليس فقط على القيمة المستقلة لخلقها، بل أيضاً على تأثيرها في تفاعل معين. فهذه العلاقة بين الفن وتشكيل الروابط الاجتماعية أو انحلالها لا تنقطع حتى من أكثر التصورات جموحاً والتي يمكن أن ينحرف السرد إلى مسارها. وحينما يعرف نفسه كمشارك في التفاعل الاجتماعي اليومي، فإن موراكامي يبرز أن أصول أية قصة تكمن على وجه التحديد في هذه المحادثات الجارية الممر من المحاور إلى الراوي إلى النبي لكونه أكثر انسياباً مما يمكن أن يفترضه المرء. وتماماً مثلما يطوق الراهب البوذي الأسطوري طفلاً بحكاية مهذبة للغاية، فإن قصص ما وراء نص موراكامي تستكشف الطريقة التي انفصلت بها أجزاء من اللغة العادية أو العادات اليومية بسبب الإعجاب بها، وفجأة تميزت باعتبارها إبداعات فنية مستقلة. إن العبارة المكررة بغير وعي ترتقي إلى حالة قصيدة، إذ تحول أحاديث الشخصية والحالة الي تكون عليها بأكملها إلى أشعار: لقد جرب وضع كلماته في إيقاع شعري: "تحدثت لنفسي/ تقريباً كما لو/ كنت أتلو/ شعراً". وفي قصة أخرى تظهر عبارة ليس لها معنى لتصبح بالتدريج سرداً نبوئياً يسمح لحكاية واقعية أن تنساب متلاشية إلى قلب نوع من الخيال الفانتازي الفرويدي المخيف، تصور قرداً يتحدث. وتتوالد سلسلة من القصص تخرج من قلب المعاني والمدلولات البارزة للمأثورات الأدبية واللعب بالكلمات، لتأخذ القارئ إلى القطب الشمالي مع حبيب متجمد في مثل برودة الجليد. وفي تقنية أخرى تُستخدم كثيراً تصبح العادات المتكررة بانتظام وسهولة ويسر ممزوجة بالمعاني الأسطورية والشعائرية. ومازالت مناورة موراكامي البارعة فيما بين ما هو يومي معتاد وماهو فني ليست تفاؤلاً موثقاً وموحداً، بقدر ما هي نظرة خاطفة على ما توحي به حبكته. إن الناس مع القصاصين والفنانين من خبرات متباينة، المؤلفات التي تشكل "الصفصافة العمياء" و"المرأة النائمة" تؤكد أيضاً على الدور الحاسم للمستمع في الإقرار أو رفض عبارات المتكلم. فإذا لم ترم المرأة بالشيطان الصغير إلى الماء وإذا لم يثبت صدق القصة فإن الحكاية التي غزلها "جايجي" لم تكن لتصبح أبداً أسطورة. وإذا كان سيفشل في التأثير في سامعيه، سيكون هذا فشلاً للفنان في أن يربط إبداعه مع الواقع؛ كما يرى موراكامي، وهو ما يتركه يقع في فخ من الغربة المخيفة، في بناء أجوف مهزوم ذاتياً. وفي واحدة من أكثر قصصه الأخاذة يكتشف البطل أن محاوره أو محادثه هو مجرد أزدواج نفسي؛ وهو مرعوب بالأمرين، إلى أي حد يعرف كل منهما الآخر، وإلى أي مدى لا تقدر نفسه المرآة أو لا تكتشفها. وفي قصة أخرى، يشق السارد الكافكاوي طريقه بالقوة خلال محاكاة ساخرة للبوابة المحصنة المشهورة بأن ينطق بكلمة السر الغامضة؛ إلا أن ما يلقاه حينما يفتح الباب هو فقط فوضى الأصوات المتجمعة التي نطق بها. إن هذه الانهيارات المذهلة في الاتصالات التي تظهر أيضاً حالة بديلة هزلية، أو يُرمز إليها بنوبات غامضة من القيء، تُعامل باعتبار أنها مكملة للتغيرات اللغوية التي تقوم بها شخصياته. ومع عدم إلقاء اللوم على أحد واتصالاً بالغثيان الذي لا يمكن علاجه، فهي تشكل واحدة من أكثر الرنات المتشائمة من بين القصص المسلية الكثيرة لموراكامي. وهكذا فمع استكشاف الروابط المختلفة للسرد مع واقع كاتبها وقارئها، فإن موراكامي يضع قصصه على أعتاب ما بين المُعاش والمتخيل والخصوصية والعمومية. وكبديل للواقع، فإن الأحلام والقصص تساعدان مبدعهما على المحافظة على إحساسه بالذات وتعريفها؛ ويظل أنهما حيث لم يعودا يُختبران من أي فرد، فهما يهددان بتدمير هذه الفردية الفعلية عن طريق جعلهما العالم يبدو غامضاً متوحداً في خصوصيته. وفي النفس وعنها، يرى موراكامي أن لغة المتحدث الفردي تكون مثقوبة. وفقط عن طريق تحويل رسالته إلى شخص آخر، يستطيع أن يعيد اكتشاف المعنى الكامن خلف الكلمات التي يستخدمها؛ ليعيد تأكيد ذاته، لكنه أيضاً يضع نفسه تحت رحمة أحد الغرباء. وكنتيجة لهذا التوتر، فإن قصص موراكامي تبعث شعوراً بكل من البراعة والوعي بالذات؛ فتربط القارئ بما هو قائمة من الحكايات الممتعة، لكنها أيضاً أكثر جرأة، وأبعد مدى في استكشاف النفس. وفي محاولة لإبهار قارئه، فإن الرواي عنده يبرز باستمرار هشاشة إبداعاته ويصل إلينا ليتأكد ما إذا كانت كلماته قد فُهمت. وفي الحقيقة أنه على الرغم من أن مثل هذا الحكي غير مؤكد وأن المجاز الذي يقفز في مضمونها ربما يأخذ بعض الوقت حتى تعتاد عليه، إلا أنه عندما ينهمك المرء أكثر وأكثر في المحادثة التي يفترضها موراكامي فإن القصص تصبح معززة أكثر وأكثر. وبالنظر إلى هذا الخليط المتنافر من الأنواع والتقاليد الأدبية، فإنها ربما تفتقد سلاسة الواقع الفعلي؛ ومازالت غرائبيته تفتقر إلى الرشاقة. إن الاختبار المفتوح لسرعة استجاباتنا وحساسياتها، إنما يزيد ويعمق من اندهاشنا عند كل تحول ناجح في العبارة ويجعلنا نتوقف ونفكر فقط في الكيفية سجلناها بها. ---------- عرض مارتا فيجلروويتز في هارفارد بوك رفيو