أنا رجل الإسعاف الذي يخفق دائمًا في التصدي للموت فقرر أن يساعده. أنا الآن أحد معاونيه. ولا أتقاضى أجرًا كي أمنح الراحة الأبدية لراغبيها من المتألمين. أمنح هذه الراحة للجميع ولا أنتظر أن يطلبها أحد. صدقوني أنا أشفق عليكم من الخراطيم التي يمدونها في حجرات الإنعاش ويثبتونها في فم المرضى. هذه الخراطيم مؤلمة.. مؤلمة حقًا. فهم يجذبون الشفاه بملقاط ويدسون هذه الخراطيم الثقيلة في الفم. هذه هي حجرة العناية المركزة بكل قسوتها وجبروتها. أنتم هنا في الممر الذي يؤدي إلى الراحة والنعيم. هكذا تظنون. 1 - غرفة العناية المركزة لا يمكن أن تكون الشوارع المسفلتة التي نقطعها بعجلات العربة والسارينة التي توقظ أحجار أرصفتها أقسى من غرفة الطوارئ، أو كما يبالغون في تسميتها غرفة العناية المركزة. تبدو للزائرين أدفأ من أي مكان وأطهر كثيرًا، لكن كل هذا مخادع، الراقد داخلها محاصر تمامًا فوق سرير حديدي مثلج، وخراطيم لولبية ثقيلة تكبله من فمه، غذاء يتدفق في بطء مذل، قطرة.. قطرة، عبر أنبوب ضيق، أجهزة ثقيلة تحيط به وترصد أحلامه ورعشاته ولحظات الأمل والاطمئنان التي تجتاحه، والخوف والقلق والرغبة، وتترجم كل هذا بلا استحياء على شاشة سوداء يرتسم عليها خط أخضر مكونًا منحنيات معقدة ومنعطفات يفهمها الأطباء بسهولة، ويبتسمون في خبث، منها يعرفون كم مرة اقترف صاحبها الرذائل. يحدقون في الشاشة السوداء ويطمئنون على ثبات خطها الأخضر وفضحه المستمر ويومئون لأهل المريض إيماءة آلية يصحبها بسمة مفتعلة وهم يقولون جملتهم التي لا تتغير: - إشاراته الحيوية مستقرة. وعندما تكف المنحنيات والمنعطفات ويهمد الخط الأخضر عن رسمها ويستلقي مستقيمًا مطلقًا صافرة طويلة؛ هنا فقط يتوترون جميعًا ويبدءون في التصايح والعدو ليجلبوا جهازًا آخر مقيتا يسمى DC shock فيصدمون به الصدر الذي استكان خطه عدة صدمات مؤلمة، بواسطة قبضتين مكهربتين، قد يثب الخط محاولاً إعادة رسم منحنياته إذا كان به بعض الفتوة، لكنه في أغلب الحالات لا ينهض أبدًا من رقدته، محبطًا آمال الأطباء في معرفة المزيد من الفضائح. اعتدت على رؤية كل هذا، intensive Care نطقتها هكذا أو بالعربية غرفة العناية المركزة سواء، ليست سوى وهمًا كبيرًا اخترعناه وصدقنا أنها أطهر مكان في العالم، هكذا أيضًا تعتقد شقيقتي الكبرى العائدة من الخارج من أجل أمي، لكنها لا تعرف حقيقة هذه الغرفة. تقف بجواري لنسمع معًا الطبيب يقول: - لقد تعرضت لنزف حاد أثناء الجراحة، سببه أن منطقة الورم ملاصقة تمامًا للمستقيم، ولا يفصلها عنه أي سنتيمترات، أخذنا احتياطاتنا وحقناها بمحاليل وأشياء أخرى لإيقاف النزف، لكننا بالطبع لم نكمل استئصال الورم، خيطنا الجرح حتى يتوقف النزف، المهم الآن أننا بحاجة لدم من فصيلة دمها، دمكما هو الأنسب. في حجرة التبرع نتمدد، شقيقتي تسكب الدموع، وخيط رفيع من دمها يجري في أنبوب مطاطي ليملأ كيس الدم، لا يشغل بالي سوى أن يكون دمي فاسدًا من التعرض المستمر للدماء الإسفلتية، حينما ينزع عنا الطبيب حقن كيس الدم يقول: - سوف نرسل الدم أولاً للاطمئنان على سلامته في المعمل. تقول شقيقتي دامعة: - أمنا.. هل ستنتظر؟ نتركها تموت.. حرام عليكم؟ محتدًا ومرتعبًا من تراجع الرجل في رأيه أمام دموعها: - يجب أن يقوموا بهذه الإجراءات قبل إعطائها دمنا. يقول الطبيب: - لا تقلقي، نحن لا نبخل عليها بأي شيء؛ منذ بدأت الجراحة ونحن لا نبخل عليها بأي شيء؛ منذ بدأت العملية ونحن نمدها بكل ما تحتاجه. 2- 123 بدأ الليل بجلبة، دائمًا يبدأ هكذا، أشعر برغبة في التقيؤ لدى انطلاقنا من مرفق الإسعاف، التقيؤ والرغبة في التبول يتلازمان في نفس لحظة خروج العربة من جوف المركز، 123 أو واحد اثنان ثلاثة، أحيانًا أشعر أنها عدٌّ تصاعديٌّ لسباق نخوضه دائمًا ولا ينتهي، هو الكود الخاص بي، مكتوبًا على جوانب العربة التي أقودها أنا أو عبده اغتيالات. قد تفاجأ بي خلفك، مضطرًا لأن أفزعك كي تفسح لي الطريق، هذا من حقي تمامًا، فإنقاذ حياة شخص يشبه الوقوع في الحب، والإسراع في الإنقاذ هو نفسه الإسراع للحاق بالحبيبة، لذلك من حقي أن أفزعك، وأن أصرخ في قفاك بواسطة البوق كي تتدحرج إلى يمين الطريق فأمر أنا من اليسار، لي الحق في تجاوز كل السرعات والإشارات؛ فالروح التي قد تصعد إلى بارئها بسبب الزحام لن توقفها إشارة حمراء أو تنتظر إشارتي لتصبح خضراء. لا أحد يعرف قيمة العربة التي أقودها حتى يدخلها ويتمدد بين أجهزتها في مقصورتها الخلفية، توجد هناك شاشة مونيتور سوداء تسمح لك بتخيل كل المشاهدات التي يبثها hot bird وكذلك شفاط يمنحك هواء نقيًا، يمكنك أيضًا أن تفرد ساقيك فوق مراتب جلدية تتثلج شتاءً، لكنها تسمح بممارسة جيدة للجنس. إنها ببساطة عربة موديل "فولكس فاجن " تشبه ميكروباص العمليات الخاصة المدرع، خصوصًا مع سلك اللاسلكي الممتد من سقفها ووحدة التكييف الراقدة فوقه، ولونها لم يعد كما كان أبيض وأحمر، أصبح برتقاليًا فسفوريًا لامعًا. طارق صليحة نفسه لا يتخيل الأغراض المتعددة للعربة، هو يعرف فقط غرضها السامي الوحيد، لن يخطر بباله أن داخلها جرت الاجتماعات السرية للمضربين من كل نوع "سائقو الميكروباصات، المقطورات، عمال مصنع الغزل " وكل المنشقين على رجال أمن دولته الذين يأتمر بأمرهم ويعطيهم تقارير سرية عن كل دبة نملة في مركز الإسعاف. داخل عربتي اختبأ شباب 6 أبريل من بطش الأمن، وكذلك قادة إضراب المصنع ورجال البرلس الذين أشعلوا النيران في دروع ميكروباصات العمليات الخاصة من أجل الدقيق. حقيقةً، لن يخطر على بال طارق كل هذا، لن يخطر بباله كيف احتضنت هذه العربة لقائي الحميمي الأول بصافيناز الكبير التي ما إن علمت بأمر النفي إلى نقطة إسعاف الكيلو 41 طريق القاهرةالسويس حتى أرغمت زوجها ليتدخل ويأمر طارق بأن يسحبني من هذا المنفى. إنها عربة ذات سطوة لا يوقفها أحد، سواء كانت حواجز الأمن المركزي، أو أوامر طارق الإدارية، ولا يعرف قيمتها إلا من يجلس خلف مقودها ويرى بنفسه قوة السارينة. 3- نهار داخلي لعربة الإسعاف - يجب إبقاء الجسم حيًا بينما يتعافى القلب والعقل ويعملان معًا. دائمًا ما يبدأ عبده اغتيالات الوردية بهذه الجملة وهو يلقنني أولى مبادئ الإنعاش القلبي الرئوي CPR، ثم يضيف: - لكن قبل هذا، ثمة ثلاث قواعد يا صديقي يجب أن تتعلمهم قبل أن تضع كفك على قلب المصاب المتوقف. القاعدة الأولى: لا تتعلق بالمرضى خاصة السيدات. القاعدة الثانية: لا تتعلق ببنات المرضى. القاعدة الثالثة: لا تجعل بنات المرضى يتعلقن بك. إذا ما سرت على هذه القواعد يا نعيم سيكتب لك عمرًا طويلاً في العمل كمسعف. أقول: - وهل يصاب الجميع بالسكتة القلبية يا عبده؟ يضحك، وحينما يضحك يدعك رقبته السمينة المترهلة كأنه يسلّك الطريق لحشرجة ضحكته عبر شحوم بلعومه، ثم يقول بعد أن يكف: - هناك إصابات أخرى يا صاحبي، رجل مثلاً كسر ذراع زوجته أثناء واجب يوم الخميس، رجل ألقى زوجته من شرفة طابقهم الثالث أو الرابع وهو يمازحها وينوي طرحها على الفراش فأخطأ التسديد، رجل ثالث يداعب رقبة زوجته فلواها وكاد يقتلها، كلها مداعبات زوجية تؤدي أحيانًا إلى كسور عنيفة. أقول: - وهل تصدق هذه الحجج يا عبده، مداعبات زوجية تؤدي إلى هذه الكسور العنيفة؟ - هذا ليس من شأننا، المهم أن نذهب ونؤدي واجبنا الإسعافي على أكمل وجه، أو ننقل إلى المستشفى، وقد ننقل إلى المشرحة، أيهما أنسب لرغبات الزبون وأهله. أقول حينما يصمت أخيرًا: - حسنًا يا عبده، كفى، كلما خرجنا معًا تظل تعطيني نفس الدرس، وأحدث نفسي هذه المرة سيقول شيئًا جديدًا، الغريب أني أيضًا أسألك نفس الأسئلة كل مرة، كفى يا عبده كفى. - يبدو أنك لم تعد تثق بعبده اغتيالات، هل تعرف كم رجل مهم حملت جثته المخرومة بالرصاص؟ وهل تعرف... لا أسمع ما يقول، اعتدت أن يردد ما يقوله كل مرة نخرج معًا في وردية مشتركة، هو يقود ويتكلم، وأنا أسمع وأسأل سؤالاً أخفق كل مرة في ابتكاره ليختلف الحديث، لكن السؤال أيضًا يخرج مكررًا، ويجيب هو إجاباته المعتادة، واعتدت أيضًا عدم التفكير في المهام السيئة، اعتدت أن أنسى، فحدوث وفاة، جزء من العمل، وإذا كان لا بد أن يموت أحدهم بعد إصابة خطيرة لا نستطيع إسعافها، فسوف يموتون على أية حال وليرحمهم الله، لكن قلوبهم دائمًا تبدأ في التوقف أولاً، معظمها حالات سكتة قلبية، ماذا حدث للكسور وضيق التنفس، الناس يموتون هذه الأيام بسكتة قلبية مفاجئة، لذلك تنتابني الكوابيس بكثرة وتحيط بي أشباح أشخاص لا أعرفهم، لكني رأيتهم في اللحظة الأخيرة التي لم أستطع إنقاذهم فيها، يأتون إلى غرفة نومي ويقفون في طابور طويل يبدأ من بابها وينتهي في دائرة ملتفة بالسرير الخشبي المتهالك. وحينما فكرت في الاستقالة، قال لي عبده: - تعتقد أنك في حال تركك العمل، ستتركك هذه الأشباح، تأكد أولاً أنك لا تخبئ أرغفة عيش تحت مرتبتك؛ فالطابور الذي تصفه أقف فيه كل يوم عند الفرن. عبده لا يعرف أن الأشباح لا تنتظر حتى أنام، بل تبدأ تتراص وقوفًا منذ أن أضع قدمي داخل عربة الإسعاف وأنطلق بها، لذلك ادع له القيادة في الليالي التي أرى فيها الأشباح تنتظرني في أركان الشوارع والأرصفة وأمام أبواب السينما. - جميع من يرون أشباحًا مجانين، هذه حقيقة علمية. يقول عبده، ويجيبه جهاز اللاسلكي: - عربة رقم 128.. أجب يا عبده أو يا نعيم. - نعم يا أستاذ مصطفى. - مصاب بضربة على رأسه داخل عربة أمن مركزي في ميدان التحرير عند المجمع تحديدًا، أسرع لأن الحالة خطيرة.