أنا أحيا" هو عنوان الرواية الاولى التي كتبتها ليلى بعلبكي منذ 51 سنة، فأثارت موجة من الاعجاب من جهة والتهجم من جهة اخرى، لأنها كانت تحاكي الأنا وتتحدى التقاليد وتروي قصة فتاة قررت ان تعيش تجربة الحياة من دون ان تقيم وزنا لأدبيات واخلاقيات لا تتجاوز الممنوعات والمحرمات التي كانت تشكل نوعا من السدود في وجه الانزلاقات نحو الوجودية وسمومها التي قيل إنها مهلكة للنفس وللجسد. كانت الاديبة الراحلة فرنسواز ساغان قد سبقتها بقليل وفتحت امام بنات جيلها الطريق التي تختصر المسافات بين المقبول والمحرّم في الحياة الاجتماعية الصارمة في حكمها على الفتيات، أياً تكن الطبقة الاجتماعية التي ينتمين اليها. لقد كانت البادئة في اختراق القوانين والقواعد السائدة انذاك، فقلبت الموازين وسارت في اتجاه يتلاءم مع رغباتها وميولها ومواقفها من كل شيء، وذلك من دون خجل او تردد او مراوغة. نشرت كتابها الشهير "مرحبا يا حزن" فأقام الدنيا ولم يقعدها إلاّ بعد مضيّ سنوات عدة. ليلى بعلبكي لم ترو قصتها بل كتبت بصدق ووعي ما قد عانته صبية لبنانية تحدّت الجميع وتجرأت على قول ما يتفاعل به جسدها من دون ان تخشى ردود الفعل في المجتمع الذي لم يتعوّد كتابة كهذه، ولا بوحاً واعترافاً وتعبيراً تعبّر كلها عن اشياء جديدة لم يُقرأ سابقا مثلها. كان ثمة ويلات كثيرة تنتظرها لأنها جاهرت ولبّت واحترمت رغبات جديدة ومتطلبات كان عليها ان تراعيها وتتقبلها وتتفانى في الدفاع عنها ضد كل من تجرأ واعتبر هذه الرواية ضربا من الاباحية غير المقبولة. لكن الكاتبة الحقيقية لم تخف. لم يزعجها كل ما قيل ضدها. لم ترعبها الحملات من اي جهة اتت. لم تحسب انها ستكون وحدها في مجابهة الجميع، أكانت الحملات نسائية ام ذكورية. عرفت ان محاربيها فئتان: أولئك الذين وقفوا ضدها في المبدأ لأنها جاهرت في حين أنهم اختاروا الرضوخ، وهؤلاء الذين فشلوا في حين أنها نجحت متسلحةً بموهبتها وحصانتها الروحية وقواها العقلية والجسدية. لم تستسلم ليلى بعلبكي، ولم تقبل في أيّ لحظة بأن تُقهر، فمزّقت غشاء البكارة الثقافية والعقلية، وكسرت الجدار، جدار اللغة وجدار المحرَّم المجتمعي، ففتحت بذلك الطريق أمام الما لا يقال والما لا يُعبَّر عنه عند المرأة. لم يبق اديب أو باحث أو مثقف او شاعر او مسرحي او فنان تشكيلي او موسيقي او راقص كلاسيكي او ممثل الا حيّا الوجه الجديد في الادب اللبناني وفي الادب العربي. الجميع طوّبوها اديبة فاتحةً الصفحة المجيدة التي ستتحرك ضمنها وليس خارجها كل فتاة لم تكن لتجرؤ قبلا على البوح والاعتراف وعدم الخجل من المشاعر والرغبات والتصرفات التي تصادفها في حياتها الخاصة. انهالت عليها الطلبات للمقابلات والعروض لترجمة التحفة الجديدة. كانت الوجودية في عزّها في فرنسا. وكان جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار وسواهما يلتقون في مقهى "لي دو ماغو" في باريس الوجوه الشابة الوافدة الى العاصمة الفرنسية للانغماس في الاجواء الوجودية السائدة. وكنا جميعا في بيروت نقوم بالتبشير بالحرية وبحقوقنا في التصرف بأجسادنا كما يحلو لنا. لم نعد نقبل بأن نكون "بوبيه دو لوكس" ولا اسيرات التقاليد ولا جاريات الامراء والشيوخ. اصبحنا ننادي بحقنا في الحياة، وذلك خصوصاً لأن ليلى بعلبكي كتبت "انا احيا". لن أستفيض في سرد ما تتضمنه هذه الرواية. فليقرأها الجميع. انا من ناحيتي اعدت قراءتها وتمتعت بها. وأستطيع أن أقول إن الرواية لم تفقد نضارتها على رغم مرور هذا الزمن الطويل، بين الصدور الأول والصدور الثاني الآن، كما ان ملامح البطلة الرئيسية في الرواية، لينا، لم تبهت البتة. فهي لا تزال مندفعة، جسداً وكلمات، مشاعرها، أحاسيسها، جملها، سريعة، متدفقة، متوترة، حيوية. تتدحرج كالحصى فوق واد سحيق. لينا لا تضيّع وقتا كثيرا في الوصف او الحوار بل تختصر الاشياء بجمل خاطفة، مقطعة ومباشرة. تذهب بسرعة الى الهدف. لا لفّ عندها ولا دوران معها. انها حديثة ومعاصرة ومتمردة ومالكة لجسدها وروحها وكل قواها العقلية، لتلبية ما تتفاعل معه وما يتوافق مع سجايا حواسها ومشاعرها. على رغم الشهرة، لم تفقد ليلى بعلبكي صوابها. ولم يصعد البخار الى رأسها. بقيت واعية ومنسجمة مع نفسها. كتبت القصص القصيرة. نشرتها ونشرت عشرات المقالات والاحاديث هنا وهناك. ثم نشرت "سفينة حنان الى القمر" ومن بعدها " الالهة الممسوخة". تجرأت وانتقدت في الصحف مواقف المسؤولين والوزراء والنافذين. لكن هؤلاء وسواهم، من اهل الدنيا والدين، لم يتركوها تتطاول وتقول ما هي مقتنعة به. فجرّوها الى المحكمة. وقد أدى ذلك الى تفجير عاصفة من المواقف المؤيدة والمضادة. وقد ربحت قضيتها لأنها كانت صادقة وحرة في كتاباتها وفي مواقفها وفي مجابهتها القمع والكبت والظلم والتعدي. وفجأةً، من دون سابق انذار، دخلت في سبات عميق. فلم تعد تنشر ولا تكتب، اقله ظاهريا. عندما كنا نسألها ماذا تفعلين، كانت تجيب بسرعة إنها تكتب. لكأنها لا تريد التحدث بهذه القضية. كأنها كانت غائبة عن ذاتها. كأنها كانت رافضة لذاتها. كانت تعاقب كل ما قامت به ليلى الشابة الثائرة المتمردة الجريئة الفاضحة لكل شيء لا يتماشى مع اقتناعاتها وسلوكها وحاضرها. ادارت ظهرها الى لينا والى جميع البطلات اللواتي اخترعتهن ومنحتهن الجسد والروح والعمر والقصص والاقدار والغياب. من دون سبب. حكمت عليهن بالاعدام من دون فرصة للأسباب التخفيفية. نامت عنهن. صمتت عنهن. استقالت منهن. لكنها، فجأةً أيضاً، ها هي تفيق اليوم. كلا ليس اليوم. فقد افاقت عندما ادركت ان الزمن يمشي بنا وبدوننا. شعرت ان 50 سنة مرت على ولادة لينا، بطلة "انا احيا". فأرادت اعادة الشباب اليها. اعادت قراءتها. فشعرت بأنها لا تزال طليعية. هكذا اخرجتها من سباتها واعادتها الى الحياة. وهي تحيا من جديد في معرض الكتاب الذي افتتح أخيرا في بيروت. وتنتظرنا مساء غد في جناح "دار الاداب" مع "سفينة حنان الى القمر" و"الالهة الممسوخة". نحن من جهتنا، ننتظر جديد ليلى بعلبكي قريبا. بل نتمنى ان يتحقق ذلك قريبا جدا أن المرأة العربية فقدت الكثير من قيمها لما قلدت المرأة الغربية في ميادين حياتها...