بملابسه الغربية وطلاقته في اللغة الانجليزية، كان الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي مختلفاً عن الشهيد الشيخ أحمد ياسين وبقية قادة حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس). كان وجه الحركة العصري الحضاري، وكان يتصدي لوسائل الإعلام الغربية ويجيد التحاور معها حتي أصبح وجهاً معروفاً في "سي. إن. إن" وغيرها من شبكات التليفزيون الشهيرة. وصعد الرنتيسي إلي قمة نشرات الأخبار -ليشار إليه بالبنان بالفعل- خلال فترتين في حياته: عندما ارتبط اسمه بالمبعدين في أوائل التسعينيات، وعندما استشهد الشيخ ياسين في 22مارس الماضي ليصبح الرنتيسي قائداً ل "حماس" في غزة. ومنذ اغتيال الشيخ ياسين، ينتظر الرنتيسي الموت، ويتوقعه، ويتمناه ب "الأباتشي" وليس بطريقة أخري، وتحققت أمنيته مساء السبت 17أبريل الحالي ليترك المنطقة تسقط في هوة سحيقة لا نهائية من العنف. وإذا كان الرنتيسي ولد مع القضية الفلسطينية عام 1948، فقد مات معها -أو ماتت معه- عام2004. وضع استشهاده نقطة في آخر سطر مايسمي بعملية السلام، واكب تمزيق جسده إلي أشلاء الوعد الجديد الذي تلقته إسرائيل من الغرب بتحقيق أحلامها الصهيونية والتهام المزيد من الأراضي الفلسطينية وحرمان الفلسطينيين من حقهم المشروع في العودة إلي وطنهم. فقد منح الرئيس الأمريكي جورج بوش -الذي لايملك- رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون -الذي لا يستحق- وعداً بتنفيذ كل مخططاته للفصل مع الفلسطينيين من جانب واحد مذكراً الجميع بوعد بلفور الشهير -وبالتالي لم يكن المحللون والمسئولون- مثل رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع والنائب العربي في الكنيست محمد بركة ومستشار وزير الإعلام السوري أحمد الحاج مخطئين عندما قالوا إن جريمة اغتيال الرنتيسي تمت بضوء أمريكي أخضر بعد أن أطلق بوش يد شارون تماماً. وتتجه أصابع الاتهام أكثر إلي الولاياتالمتحدة إذا عرفنا أنها كانت الدولة الوحيدة في العالم التي لم تدن جريمة اغتيال الرنتيسي واكتفت -علي لسان سكوت ماكليلان، المتحدث باسم البيت الأبيض- بالقول إنها "قلقة للغاية بشأن السلام والاستقرار بالمنطقة"!. ولد الرنتيسي قرب مايعرف الآن بمدينة "عسقلان" الساحلية في إسرائيل، وانتقل مع أسرته وهو رضيع إلي قطاع غزة ضمن آلاف الفلسطينيين الذين شردتهم حرب 1948 التي أفضت إلي قيام إسرائيل. ونشأ في مخيم خان يونس للاجئين قبل أن يتلقي تعليمه الطبي في مصر ويصبح طبيب أطفال. وكان الدكتور واحداً من بين 415 شخصاً مرتبطين بحركتي "حماس" و"الجهاد" أبعدتهم إسرائيل إلي جنوب لبنان بعد سلسلة من العمليات ضد أهداف إسرائيلية. وتبوأ مكانة رفيعة كمتحدث باسم المبعدين، الذين سمح لهم -بعد شهور- بالعودة بعد أن تعرضت إسرائيل لضغوط دولية. وقضي الرنتيسي بعد ذلك فترة في سجون السلطة الفلسطينية بسبب معارضته للسلام مع إسرائيل. ومنذ بدء الانتفاضة الأخيرة، لعب دوراً بارزاً في حشد الدعم لحماس، ونجا من محاولة اغتيال إسرائيلية في يونيو الماضي. وبعد أن اغتالت إسرائيل الشيخ ياسين، انتقل إلي صدارة قائمة المستهدفين الإسرائيلية السوداء، حتي إن مصادر أمن في تل أبيب قالت إن أربع طائرات بدون طيار كانت تجوب سماء غزة باستمرار خلال الأسبوعين الماضيين بحثاً عنه قبل أن يتم تحديد موقعه واغتياله. وكانت إسرائيل تصر علي قتله رغم أنه دأب علي تصوير نفسه بأنه أحد ساسة "حماس" ولا علاقة له بالجناح العسكري للحركة. وكان -كسياسي- يتحدث بلهجة هادئة لكن واثقة، مما أكسبه احترام الجميع حتي الذين يختلفون معه. والرنتيسي متزوج وله ستة أبناء، وكان مسلماً ملتزماً يقطع المقابلات لأداء الصلاة في أوقاتها، لكنه كان في نفس الوقت تنويرياً بعيداً تماماً عن التزمت، بدءاً من هيئته حتي تصرفاته. وهذه المعادلة الصعبة التي نجح في تحقيقها جعلته محبوباً وأكسبته إعجاب كثيرين من الشبان الفلسطينيين الذين ساروا علي دربه.