يومًا بعد يوم يؤكد العملاق الصيني نجاح رهانه علي سكانه (مليار و336 مليون نسمة) وليس علي عملة أو اقتصاد، فقد تمكن من خلال اهتمامه غير المحدود بخريجي المدارس والجامعات بتجهيز قاعدة عقلية فكرية يعتمد عليها في قيادة التنمية الخضراء، لضمان استمرار التفوق علي مستوي الاقتصاد العالمي بعد أن أصبحت الصين أكبر قاعدة للتصنيع بالعالم. ويعتمد النهج الاقتصادي الصيني في الأساس علي تشجيع الشركات الصينية علي بيع منتجاتها بثمن بخس في الأسواق الأجنبية خاصة الولاياتالمتحدة وأوروبا، بل وتمكنت هذه الشركات من إنتاج السلع بتكلفة منخفضة بالمقارنة بنظيرتها في الولاياتالمتحدة بنسبة تصل إلي 20%، مما أعطي فرصة كبيرة لا تعوض للدول ذات الأجور المنخفضة والتي تصنع نفس سلع الصين. وبالتالي فقد اضطرت شركة "وول مارت" إحدي كبريات الشركات الأمريكية للبيع بالتجزئة للبيع بأقل سعر ممكن، لأنه لا مفر من هجوم السلع الفيتنامية أو التي تأتي من بنجلاديش، وهذا السيناريو ليس بالجديد فمنذ يوليو 2005 حتي يوليو 2008 وتحت ضغط شديد للحكومة الأمريكية اضطرت بكين لرفع سعر عملتها في مقابل الدولار بنسبة 21%. وعلي الرغم من هذه الزيادة الكبيرة، واصلت الصادرات الصينية للولايات المتحدة نموها بقوة، ولكن بعد أن ضرب الركود الولاياتالمتحدة تباطأت الصادرات الصينية، وإن كان ليس بقدر البلدان التي لم ترفع مستوي عملتها. فالموقف الصيني أفضل من الدول المصدرة الأخري، فكل ما حققته الصين يأتي من خلال اعتمادها علي تعداد سكانها الرهيب الذي يعادل 20% من سكان العالم، إلي جانب إعداد أبنائها بشكل علمي دقيق، فالدراسة لديها تعتمد علي اللغة الإنجليزية والتكنولوجيا. ويؤكد روبرت فوجل الأمريكي الحاصل علي جائزة نوبل في الاقتصاد أنه متفائل بشأن الصين، لأن الزيادة في معدل العمال ذوي المهارات العالية سيفرز بشكل كبير معدل النمو السنوي الصيني، وسيصل بالناتج المحلي الإجمالي لها إلي 123 تريليون دولار عام 2040 أي سيصبح أكبر اقتصاد في العالم. فالصين الآن قد بدأت الدخول في سلسلة من الصناعات والوظائف والتي كانت حكرًا علي الغرب، وهذا هو التحدي الحقيقي، فالصين تنمو ببطء وقوة عن طريق الاستثمار الاستراتيجي والعمل الشاق وليس بالتلاعب في سعر العملة أو الإعانات الخفية، وتري مجلة "تايم" الأمريكية أنه لا مفر من توقيع اتفاق بين الصين والولاياتالمتحدة لإفساح الطريق لإقامة إصلاحات هيكلية واستثمارات كبري جديدة تمنح الاقتصاد الأمريكي القدرة علي المنافسة. مجلة "تايم" أجرت حوارًا مع رئيس الوزراء الصيني وبين جياباو ووجهت له بعض الأسئلة وأجاب عنها علي النحو التالي: هل تشعر أن الاقتصاد العالمي مستقر وقوي؟ وهل تشعر بالقلق من عودة الركود إلي الولاياتالمتحدة؟ أعتقد أن الاقتصاد العالمي في حالة "تعافي"، فرغم أن عملية الانتعاش غير مستقرة وبطيئة، لكنني آمل بحدوث انتعاش سريع، لأننا لا يمكن أن ننكر أن الاقتصاد الأمريكي هو الأكبر في العالم، وأري أن السياسات والتدابير التي يتخذها الرئيس الأمريكي باراك أوباما مؤخرًا تسير علي الطريق الصحيح. ما الدرس الذي يمكن للصين أن تستخلصه من الأزمة المالية العالمية؟ وهل فقدت ثقتك في إدارة الاقتصاد الأمريكي؟ الدرس الأكبر الذي تعلمته الصين من هذه الأزمة أنه عند إدارة شئون البلاد، عليك أن تولي اهتمامًا كبيرًا لمعالجة المشاكل الهيكلية في الاقتصاد، فقد حققت الصين تقدمًا تنمويا كبيرًا، ومع ذلك فقد كنت أول من زعم أن تنميتها الاقتصادية تفتقر إلي ثلاثة عناصر: التوازن والتنسيق والاستدامة، وهذه الأزمة المالية أكدت وجهة نظري، أما فيما يتعلق بالاقتصاد الأمريكي فأري أن الولاياتالمتحدة لديها ما يكفيها من المواهب العلمية والتكنولوجية والخبرة الإدارية، ورغم الإخفاقات والانعطافات إلا أنها ستتجاوز وتتفوق علي هذه الأزمة. هل يمكن للصين أن تكون أمة قوية وخلاقة مع فرض كثير من القيود علي حرية التعبير والرقابة علي شبكة الإنترنت؟ حرية التعبير أمر لا غني عنه لأي بلد، وقد أدرجت أيضًا في الدستور الصيني، ففي الصين هناك نحو 400 مليون مستخدم للإنترنت و800 مليون من المشتركين من خلال هواتفهم المحمولة، ويمكنهم الوصول للإنترنت للتعبير عن آرائهم بحرية حتي ولو كانت انتقادية. ودائمًا ما أؤكد أنه لا يجب فقط أن نسمح للناس بحرية التعبير بل إن الأهم من ذلك هو تهيئة الظروف لهم ليتمكنوا من انتقاد عمل الحكومة، ولكن في إطار الدستور وقوانين البلاد، وهذا أمر ضروري جدًا لبلد كبير مثل الصين. في خطاب لك قلت "جنبًا إلي جنب مع الإصلاح الاقتصادي، علينا أن نواصل الإصلاح السياسي" ولكن الكثير من الصينيين يقولون إنه لم يكن هناك الكثير من الإصلاحات السياسية علي مدي السنوات الست أو السبع الماضية؟ يمكنني أن ألخص أهم المبادئ السياسية في أربع جمل فقط "السماح للجميع أن يعيشوا حياة سعيدة بكرامتهم"، "السماح للجميع أن يشعروا بالأمن والأمان"، "مجتمع يسوده العدل والمساواة"، "خلق نوع من الثقة في المستقبل". وعلي الرغم من المقاومة واختلاف الآراء بداخل المجتمع إلا أنني سأعمل وفق تلك المبادئ السياسية الأربعة، وذلك للتقدم بثبات ووفق إمكانات لإعادة الهيكلة السياسية. أليس من الأفضل للصين توقع ما هو أفضل للرنمينبي؟ أولاً: الصين لا تسعي إلي تحقيق فائض تجاري، فهدفنا في التجارة الخارجية هو أن تكون متوازنة ومستدامة مع البلدان الأخري، ونحن نريد أن يكون هناك توازن في ميزانية المدفوعات الوطنية، ثانيا: إن الزيادة في الفائض التجاري لبلد ليس بالضرورة أن ترتبط مع سياسة سعر الصرف في هذا البلد. ثالثًا: أن الخلل في الميزان التجاري بين الصين والولاياتالمتحدة هو هيكلي في طبيعته، فلم تعد تنتج العديد من الصادرات الصينية ولا أعتقد أن الولاياتالمتحدة سوف تعمل علي إعادة إنتاج هذه المنتجات، وإذا لم تشتريها من الصين، فيمكنك شراؤها من الهند أو سريلانكا أو بنجلاديش، وهذا لن يساعد علي حل الخلل في الميزان التجاري بين البلدين. ما أفضل كتاب قرأته خلال الأشهر الأخيرة ونال إعجابك؟ أهتم دائمًا بكتب التاريخ، فأنا أؤمن بأن التاريخ مثل المرآة، وأحب قراءة التاريخ الصيني وتاريخ الدول الأجنبية أيضًا. أما عن أفضل كتابين جذبا انتباهي، فسافرت معهما "نظرية المشاعر الأخلاقية" لآدم سميث والآخر "تأملات" لماركوس أوريليوس، أما كتب السيرة الذاتية والمذكرات التي انتشرت في الأيام الأخيرة، فلا أحب قراءتها. تحدثت كثيرًا عن تصميمك علي مواصلة الإصلاح السياسي، فهل تعتقد أن الجيل المقبل من القادة الصينيين سيحاولون تنفيذ رؤيتك؟ أولاً: دائمًا ما يفوق الجيل الجديد الجيل القديم، فأنا واثق أن القيادة الصينية في المستقبل ستتفوق علي سابقتها. ثانيا: قوة الصينيين وارادتهم هي التي ستحدد مستقبل البلاد وتاريخها، فرغبة وإرادة الشعب لا يمكن إيقافها، فمن يذهب مع الاتجاه سيفوز ومن يخالفه سيفشل.