لم تفارق ذاكرة عدلي رزق الله وهو في السبعين من عمره صورة الطفل ذو العشر سنوات الذي كانه العاشق لأي جميل في الرسم والموسيقي والكتابة المتوحد مع الفن، الذي يترك كل تقاليد العائلة ليبدأ في دراسة الفن وهو في الثالثة عشرة ليضع رحلته الأولي إلي كلية الفنون الجميلة جاءت التجربة الفنية للفنان التشكيلي الراحل عدلي رزق الله حاملة خصائص التفرد بما احتوت عليه من تمرد وإبداع مغاير اتسم بعمق التجريب وإيجاد مساحات متنوعة للرؤية عبر أسلوب فني مرن وسلس وشفاف في آن واحد، لتضع اسم صاحبها في صدارة المشهد التشكيلي في النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات القرن الحالي. عدلي رزق الله هو الفنان الحالة الذي لن يتكرر مثله مثل عبدالهادي الجزار وسعيد العدوي وإنجي أفلاطون ومحمود سعيد، الذي كان لكل منهم مدرسته الخاصة في الفن سواء في الواقعية أو السريالية أو التعبيرية وغيرها من مدارس الفن التشكيلي المتعارف عليه. ربما يكون رزق الله هو أحد أفضل من استخدم الألوان المائية ذات البعد الشفاف والمتأنق أحيانا، لم تكن ضربات فرشاته ضربا في الفراغ إنما محاولة لإيجاد عالم متكامل من الرؤية في فضاء اللوحة فهو المسافر الأبدي في متاهة اللون، عاشق اللون الأبيض المحمل بأوجاع وطن بأكمله والمكتوي بعذاباته والمتوحد مع شجونه مما خلق عنده حالة من الصوفية وسط ضبابية اللون وعلي حد تعبير الفنان الراحل بيكار فإن عدلي رزق يضع موقفه أمام صفحات الورق الممتدة أمامه كصحراء جليدية تدفعه روح المغامرة ولهفة الشوق إلي تفجير صمتها فيبدأ معها حوارا صوفيا بلا كلمات بمائياته البالغة الرقة والرهافة إنه فقط يتلهف إلي سماع الصرخة الأولي للمولود الذي في أحشائها وهو يستقبل الحياة لأول مرة ويترك ما بعد ذلك للمصير القدري. كانت مائيات عدلي رزق الله أشبه بالوهج الذي لا يخبو والبركان المتفجر دائما بالأسرار والحكايات تلك التي تشبع بها منذ مولده بقرية أبنوب الحمام بمحافظة أسيوط في صعيد مصر عام 1939 تلك الحكايات التي اختمرت في الذاكرة بما تحمله من روائح الصعيد الحادة والحريفة علي حد تعبيره في سيرته الذاتية والتي عنونها ب "الوصول إلي البداية في الفن وفي الحياة" والتي كشف فيها النقاب عن المكونات الأولي للمخيلة الوثابة لديه حيث النخيل والقيلولة والزهور تلك التيمات التي أصبحت رموزا حاضرة وبقوة في معظم لوحاته التي كان يحسها ليس مجرد لوحات أو إضاءات لونية بقدر ما هي مكان وزمان وبشر من لحم ودم يصنعون خلفية هائلة لرموز تنقشها فرشاة الفنان الموجوع والمتلظي بالتواريخ والأشخاص والأحداث. ورغم أن عدلي رزق الله كان يحمل في خلفيات الذاكرة ميراث الفن المصري الفرعوني وحداثة الفن العالمي إلا أنه أراد أن يكون دائما الباحث عن شخصيته للفن المصري مثل محمود مختار المثال الذي جسد حداثة التاريخ المصري الواقعي في تماثيله التي تتجدد قيمتها بمرور الزمن وبمعني من المعاني كان رزق الله يمارس التنوير باللون من خلال مشاكسة ذاكرة المتلقي البصرية وهي إحدي الخصائص الأساسية علي ما أظن في تجربته الممتدة فعاشق البياض في فراغ اللوحة هو عاشق النور أيضا الذي تمني أن يسود بمعانيه المختلفة في الحياة المصرية التي تشوبها أدران كثيرة ولذا نري الأبيض في لوحاته ليس ذلك الأبيض الخالص إنما تراه مشوبا في أغلب الأحيان بألوان أخري كالأصفر والأحمر فكأنك أمام اللوحة تقف أمام نص إبداعي متلاطم الدلالات ولعل ذلك نراه جليا في لوحاته التي أسماها شهادات الغضب، فرغم رقة التعامل مع اللون إلا أن الغضب والرفض يأتي من تداخل الألوان القانية مع اللون الأبيض الشفاف. ليبني علي حد تعبير إدوار الخراط النص التشكيلي بما فيه من احتشاد ومن شعرية التكثيف، ومن جرأة في التعامل مع الفراغات التي نجدها دائما في كل أعماله وكأن هذا الفراغ هو تأسيس لتجربة قادمة وللوحة تالية فالنقصان في الفن اكتمال والاكتمال في الفن نقصان وعلي حد تعبير عدلي رزق الله في مقدمة سيرته الذاتية التي أشرت إليها سابقا فالفن بداية أبدا.. والفنان علي طريق البداية حتي موته الجسدي، والوصول خدعة، لو اعتقدها الفنان كان في هذا الاعتقاد نهايته. لم تفارق ذاكرة عدلي رزق الله وهو في السبعين من عمره صورة الطفل ذو العشر سنوات الذي كانه العاشق لأي جميل في الرسم والموسيقي والكتابة المتوحد مع الفن، الذي يترك كل تقاليد العائلة ليبدأ في دراسة الفن وهو في الثالثة عشرة ليضع رحلته الأولي إلي كلية الفنون الجميلة وهو لم يزل في ريعان الصبا قائلا: أنظر إليها كأنها الجنة أري بعيون الصبي الحالمة عالما ملونا بألوان زاهية وخرافية الجمال.. فنانون بلحي صغيرة كالتي أحملها الآن طلبة وأساتذة تختفي في الحلم هويتهم تلك وأراهم جميعا فنانين يحيون الفن في الفن.. عالمهم ملون وأقرر أن في هذا المكان مستقبلي وحياتي. وفي عام 1955 تحقق حلم الصعيدي المتمرد بدخول كلية الفنون الجميلة رغم معارضة الأسرة التي كانت تري أن في هذا التوجه ضياعا لمستقبل ابنها التي كانت تعده لأن يكون طبيبا أو صيدلانيا وفي الفنون الجميلة انفتحت أمام الطالب القروي مساحات شاسعة من الفن علي يد العمالقة عبدالهادي الجزار والحسين فوزي وعزيز مصطفي وعبدالله جوهر وماهر رائف وكمال أمين. وفي القاهرة توطدت صداقاته مع نجوم الفن والأدب ومنهم يحيي الطاهر عبدالله ومكرم حنين ومحمد جاد الرب ومحمود بقشيش وسيد خميس وغيرهم من الفنانين والأدباء الذين كانوا يتوافدون علي شقة العجوزة الشهيرة في الستينيات وإن كان أكثرهم تأثيرا عليه من الناحية الأدبية وقتها الروائي الأردني، غالب هلسا الذي يقول عنه رزق الله علمني غالب القراءة والذي كان في مناقشاته شرسا فقد كان يري أن القراءة محاورة وتحصيل في آن واحد ومن المحطات المهمة في حياة رزق الله سفره إلي باريس وقد جعل من السنوات إقامته بها فرصة للمعرفة فباريس علي حد تعبيره متحف كبير وكان وجوده بها كما يقول: "هبة وعطية السماء لكي يتسق تاريخ الفن بوجداني