بعد عام من اختياره في منصبه، ابتدع السيناتور جورج ميتشل المبعوث الأمريكي للسلام في الشرق الأوسط صيغة المفاوضات غير المباشرة لاستئناف عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل وبعد شهرين من طرح الفكرة وافق الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي علي الانخراط في المفاوضات التي يرعاها ميتشل وفريقه علي مستوي الرئيس الفلسطيني محمود عباس "أبو مازن" ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو علي أمل التمكن من الانتقال إلي المفاوضات المباشرة خلال أربعة أشهر وهو السقف الزمني الذي حددته لجنة متابعة مبادرة السلام العربية لإحراز تقدم وعامان للإعلان عن الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وقد أثار الإعلان عن أول انفراجة علي صعيد عملية السلام في الشرق الأوسط منذ نهاية 2008 انقسامات عميقة بشأن مصير هذه المفاوضات نجاحا أو فشلا فهناك فريق يري أنها الأسلوب الأمثل للتعامل مع المأزق الذي تعيشه مسيرة السلام وتتيح فرصة أكبر أمام الراعي الأمريكي للغوص في التفاصيل وتفاصيل التفاصيل والوقوف علي الطرف المعطل.. ويسوق لتبرير ذلك تجربة المفاوضات التي أعقبت مؤتمر أنابوليس نهاية 2007 والذي لم يحرز أي تقدم ولم يتم توثيق ما دار خلال مفاوضات مباشرة استمرت قرابة العام.. وفي المقابل يري فريق آخر أن هذه المفاوضات محكوم عليها بالفشل حتي قبل أن تبدأ استنادا للعديد من الاعتبارات الموضوعية في مقدمتها، أن حكومة نتانياهو التي تضم غلاة اليمين والمتطرفين الدينيين لا تهدف إلي تحقيق سلام مع الفلسطينيين وأنها وافقت علي المشاركة في هذه المفاوضات بهدف تفادي الصدام مع الرئيس أوباما ولضمان كسب تأييده لها في التعامل مع التحدي الذي يمثله البرنامج النووي الإيراني. ويؤكد هذا الفريق أن نتانياهو دخل المفاوضات من أجل تحويلها إلي وسيلة لفرض التزامات أمنية جديدة علي السلطة الوطنية الفلسطينية.. وكذلك بحث فكرة إقامة دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة وهو ما سبق أن رفضها الفلسطينيون شكلا وموضوعا. ويسوق الفريق الذي يغلب عليه التشاؤم بنتيجة المفاوضات غير المباشرة قرائن عديدة تؤدي إلي فشلها بينها أن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي غير قادرين علي صناعة السلام.. فالرئيس أبو مازن في أضعف حالاته وشرعيته ليست محل إجماع فلسطيني كما أنه مازال عاجزا عن تحقيق المصالحة مع حماس وإعادة اللحمة بين الضفة الغربيةالمحتلة وقطاع غزة.. وربما كان شعور أبو مازن بضعفه وراء إشراك العرب في اتخاذ قرار المشاركة من عدمه وهو ما جاء بالإيجاب لإبراء الذمة من جانب ولأن العرب لم يعد لديهم أو هكذا يبدو غير البيانات الكلامية للفلسطينيين. يضاف إلي ذلك التباين الشديد بشأن التصريحات الصادرة عن جدول المباحثات ففيما استبعدت المصادر الإسرائيلية تطرقها إلي قضايا الوضع النهائي.. أصر د. صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين والقيادي في حركة فتح علي أنها تتركز علي هذه القضايا بداية من القدس واللاجئين والمياه والحدود وحتي المعتقلين وهو البند الذي أضافه مؤتمر أنابوليس. ولم يكن نتانياهو أفضل حالا من أبو مازن فالرجل يقود ائتلافا هشا يضم متطرفين ويمينيين يرفضون الانسحاب من أي شبر من الأراضي الفلسطينية المحتلة ويناهضون وقف الاستيطان وبالتالي فإنه في حال إقدامه علي تقديم أي تنازلات من وجهة نظرهم فهذا معناه انهيار حكومته وذهاب إسرائيل باتجاه إجراء انتخابات مبكرة في حالة فشلت تسيبي ليفني زعيمة حزب كاديما في تشكيل حكومة جديدة وهو أمر يستغرق زمنا أكبر من عمر المفاوضات غير المباشرة وما أكثر ما لجأت إسرائيل إلي هذه اللعبة الديمقراطية للتهرب من استحقاقات السلام. يبقي أن الراعي الأمريكي الذي ثبت في مرات عديدة انحيازه الكامل إلي جانب إسرائيل يبدو هذه المرة مختلفا وحريصا علي الظهور في "نيولوك جديد" وهو ما عبرت عنه تصريحات المتحدث باسم الخارجية الأمريكية التي أعقبت الإعلان رسميا عن انطلاق المفاوضات غير المباشرة، حيث حذر فيليب كراول الطرفين من مغبة تقويض الثقة مؤكدا أن بلاده ستحمل الطرف المعرقل المسئولية بهدف التصرف بطريقة تؤدي إلي الاستمرار في المفاوضات. وبرغم "صرامة" اللغة التي استخدمها كراول وتأكيده حصول بلاده علي تعهد إسرائيلي بوقف البناء في المشروع السكني المتنازع عليه في القدسالشرقية فقد سارع مسئول إسرائيلي إلي نفي هذه التصريحات وقال إن إسرائيل لم توافق علي تجميد الاستيطان وهو ما اعتبرته السلطة الفلسطينية بمثابة إحراج لواشنطن. إن المنطق يفرض والحالة هذه ردا مريكيا حازما إذا أرادت أن تخرج هذه المفاوضات إلي بر الأمان وقطع الطريق علي إسرائيل لتحويلها إلي وسيلة لكسب الوقت وتكريس سياسة الأمر الواقع.. وبدون هذه الوقفة فإن عوامل انهيار هذه المفاوضات ستتغلب علي مقومات ودوافع النجاح. ومع التسليم بأن الضعفاء لا يصنعون السلام وهو ما ينطبق علي طرفي المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وإلي حد ما الوسيط الأمريكي، إلا أننا لن نري من المشهد الراهن سوي نصف الكوب الممتلئ لعل وعسي أن يكرر ميتشل نجاحه التاريخي في أيرلندا ولعل أوباما يأتي بما عجز عنه الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون الذي أشرف في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض علي مفاوضات كامب ديفيد الثانية بين الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك ايهود باراك. والخوف كل الخوف أن يؤدي فشل المفاوضات إلي إشعال دورة جديدة من العنف والعنف المضاد لاسيما وأن مسرح الشرق الأوسط جاهز وبذات الدرجة للاحتمالين.. عقد صفقة سلام تشمل إيران وسوريا والفلسطينيين وحث حزب الله أو اندلاع مواجهة عسكرية بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل من جانب وما يسمي بقوي الممانعة من جانب آخر لإعادة رسم وتوزيع الأدوار علي اللاعبين السياسيين في المنطقة.. تري أيهما ينتصر في النهاية دعاة العرب أم دعاة السلام لأنه من المستحيل أن تبقي حالة اللاحرب واللاسلم الحالية إلي ما لا نهاية.