تتجلي عبقرية المصريين في ذلك الإنجاز العظيم الذي حققه منتخب"حسن شحاتة" بالحصول علي كأس الأمم الإفريقية للمرة السابعة، والثالثة علي التوالي، وبكل المقاييس ما حققه المنتخب المصري يعد رقما قياسيا غير مسبوق، وهو خير دليل علي أن المصريين يملكون القدرة والإرادة والتصميم والعزم، الذي يمكن حتي أن يقهر المستحيل، ولكن بشرط أن يتوفر لهم القائد الجيد، الذي يعرف مواطن الإبداع والتفرد عند كل واحد منهم، ويعرف كيف يدفع بهم إلي الأمام، ويحقق بهم ومن خلالهم أروع وأعظم النتائج. هذا ما تؤكده حقائق التاريخ، فانتصارات وفتوحات المصريين علي مر العصور تحققت بفضل القيادة الرشيدة، والواعية، والصالحة، والتي تعمل من أجل المصريين كلهم، وتضرب لهم المثل الصالح، والقدوة الحسنة، والتي لاتنظر إلي مقعد القيادة أو الرئاسة علي أنه نوع من التشريف، وإنما ينظر إليها علي أنها مسئولية، وقدر محتوم، يتطلب من كل من يتحمل تبعاته أن يهب نفسه وكل قدراته وإمكانياته لتنفيذ مهام القيادة التي وصلت إليه علي خير وجه، ولصالح الشعب قبل أن يعمل لصالحه الخاص. كان القائد دوما هو محرك الهمم، وملهم النفوس، والعقول، وحامل الشعلة، ومتقدم الصفوف في اتجاه الهدف والأمل المنشود، يقود الشعب من انتصار إلي انتصار، وحتي إن مرت فترة انكسار، يعرف كيف يستلهم منها عوامل الانتصار، ويقضي علي أسباب الهزيمة، ويزرع الأمل وعزيمة الحياة في النفوس والقلوب. والقائد المحنك والمجرب، هو من يعرف نقاط القوة والضعف عند كل جندي من جنود الفريق الذي يقوده، فيوجه عناصر القوة بالاتجاه الصحيح والبناء، ويعدل ويصلح من مكامن الضعف، جاعلا منها عوامل تقدم وبناء لا معاول هدم. يفعل القائد كل ذلك في إطار من القيم والأخلاق، المحاطة بسياج الدين الحصين، فنهضة بلا قيم أو مباديء، ولا تقوم علي أخلاق، واساس من الدين، مجرد مظاهر جوفاء، لاتصنع تقدما بقدر ما تدفع إلي الخلف. لكل هذا استطاع "حسن شحاتة" أن يصنع الفرحة، ويهديها للمصريين بعقول وقلوب وأقدام الشباب الذين أحسن المدرب قيادتهم، وجعلهم يقدمون أفضل ما عندهم ليحققوا هذا الإنجاز، وهكذا بفضل القيادة الحكيمة، واختيار المعاونين الأكفاء، والتخلص من عشاق الأضواء، أصبح منتخب مصر سيد الكرة الأفريقية بلا منازع. جمهوريات الموز!! في إطار انتصارات المنتخب المصري وإنجازه التاريخي، أري أن ما تحقق في "جمهورية شحاتة" لابد أن تأخذ منه "جمهوريات الموز العربية" الدرس، حتي تتحول إلي جمهوريات أو دول بالمعني الحقيقي، وليست مجرد "عزب" تدار لصالح أشخاص ومجموعات معينة، كما هو واقع الحال في العديد من دولنا العربية، التي هي حقا "جمهوريات موز" بلا معايير أوأساسيات، وإنما دول تتحكم فيها العشوائية والأهواء. (تقع جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية، وقد اشتهرت بالانقلابات العسكرية المدعومة من أطراف خارجية، وخصوصًا الولاياتالمتحدةالأمريكية). نعم قد يغضب بعض الساسيين من كلامي هذا، ولكنها الحقيقة، فما حققه " حسن شحاتة" مع المنتخب المصري، درس في القيادة والحكم وتحقيق الإنجازات، وتعالوا نري ما فعله" المعلم" حتي يتحقق الإنجاز، وينتصر أفراد جمهوريته، ويصنعون البسمة لهم ولغيرهم. أول دروس انتصار شحاتة ومنتخبه، هي ضرورة احترافية من يقود، وحسن اختيار أعضاء الفريق الحاكم، بعيدا عن المجاملة أو الشللية أو المحسوبية، أوكما يقول المثل"إعطي العيش لخبازه "وهذا ما فعله شحاتة، فقد اعتمد علي جهاز فني حكيم ينتهج الاحترافية في التعامل مع اللاعبين، وأعطي الفرصة كاملة للاعبين المحليين، في الوقت الذي تقوم فيه كل المنتخبات بتجميع المحترفين ومنحهم الفرصة كاملة في كل الارتباطات الرسمية، وهوهنا اعتمد منهج أهل الخبرة وليس أهل الثقة كما يفعل قادتنا وحكامنا. ** والعامل الأهم في تحقيق إنجازات شحاتة، وأري أنه اساس أي إنجاز، هو الروح الجماعية التي خاض بها المنتخب مبارياته الرسمية، والتي كان لها مفعول السحر في تحقيق الانتصارات والفوز بالبطولات. وهذا هو ما تفتقر إليه حكومتنا وغيرها من الحكومات العربية، التي تعمل وزار اتها وهيئاتها كجزر منعزلة، لاتعاون ولا ترابط، ولا خطة تجمعها، فما تبنيه جهة تهدمه أخري، ولهذا لا نتقدم، ولا نسير إلي الأمام في أي أمر من أمور حياتنا. وأيضا من عوامل تحقيق الإنجاز، توفير الدعم المادي اللازم والضروري، وعدم البخل في وضع الميزانيات، ما دام الهدف كبيرا، وكم من مشروع تنموي كبير، لم يحقق الغرض منه، لقلة الاعتمادات المادية، في الوقت الذي تُصرف فيه الملايين في نشاطات ومشروعات ديكورية استعراضية لا هدف قومي من ورائها. والأمر الآخر الذي كان وراء الإنجاز هو الطموح والأمل والرغبة الأكيدة في تحقيق معجزة بكافة المقاييس، وهذا أيضا لا يتوافر في العناصر التي يتم اختيارها في معظم المواقع القيادية في مصر وغيرها من بلادنا العربية، حيث يحكم تلك الاختيارات الحزبية والقبلية، وعوامل الولاء والانتماء والشللية، فيأتي إلي المناصب القيادية من يفتقد إلي الطموح، والنظرة المستقبلية، ولا تحكمه سوي المصلحة الشخصية، فهو يعمل بمبدأ " أهبش واجري"ولا يهمه تحقيق أية إنجازات. عامل آخر تميز به المنتخب المصري عن غيره من المنتخبات الإفريقية، وهو أنه كان خلال السنوات العشر الماضية والتي تربع فيها علي عرش القارة السمراء، المنتخب الوحيد الذي احتفظ بلاعبيه دون احتراف إلا القليل. ويعني ذلك في مجال قيادة الدول وسياستها تقديم كافة المزايا، وإتاحة كل الفرص أمام الطاقات المصرية الخلاقة من خبراء وعلماء في كافة المجالات لخدمة بلادها، بدلا من وضع العراقيل أمامها، وحصارها و"تطفيشها" حتي تهاجر رغما عنها بحثا عن فرصة أفضل تتناسب وإمكانياتها، وهذا بالفعل ما فعلناه في مصر، حيث يجد العلماء المصريون في الخارج الفرصة للنجاح والتميز، وحيث البلاد الأجنبية التي تستفيد من علمهم وخبراتهم، فتتقدم تلك المجتمعات، ويعرف العالم كله لهؤلاء العلماء مكانتهم، والأمثلة كثيرة، فلو بقي "أحمد زويل" في مصر ما سمعنا عنه، وما حصل علي جائزة نوبل. بلاد "النجم الأوحد"!! ورغم أن منتخبنا لم يكن الأفضل فنيا وبدنيا لكنه امتلك الروح القتالية والأداء الرجولي والالتزام تحت قيادة حسن شحاتة، المدرب الوطني، الذي انتصر للمبادئ والأخلاق وقضي علي ظاهرة النجم الأوحد، وأصبحت الجماهير لديها ثقة كبيرة في اختياراته، ولا تغضب لخروج لاعب أيا كان اسمه لكونها لديها ثقة في البديل. وبتطبيق هذه القاعدة علي إدارة الدول والحكومات، نجد أن معظم وزراء حكوماتنا العربية ومن بينها حكومة " نظيف" تغيب عنهم الروح القتالية، لأنهم لم يأتوا من رحم الأمة، ولم يعانوا مثل ما عاني الناس، وإنما جاءوا من بيئات مرفهة مترفة، فافتقدوا الروح القتالية، التي تعني الإصرار والتصميم علي تحقيق المهام، حتي ولو كانت مستحيلة، فهي روح الجنود، التي تزرع فيهم، ولم يتعلم هؤلاء الوزراء التضحية والعمل لصالح الجماعة، وهي نتاج طبيعي للروح القتالية التي غابت عن قياداتنا بفعل فاعل، لأن في غيابها تحقيق لأهداف من لايحبون لهذا البلد أن ينمو ويتقدم. انتصر منتخب"المعلم" لأنه آمن بالجماعية، ونبذ الفردية، فبروح الجماعة والتعاون يتحقق الفوز، وتُسجل الأهداف، وليس بالفردية أو الأنانية، بينما نحن في حياتنا السياسية، ليس في مصر وحدها، ولكن في وطننا العربي كله، نعيش عصر" النجم الأوحد" فنحن دول الشخص الواحد، الزعيم، المفدي، الركن، المهيب، القائد الملهم، أمورنا في يد حاكم واحد، سواء أكان رئيسا، أوملكا أم أميرا، أم شيخا، هو صاحب الحل والربط، هوالآمر، والناهي، من عنده نقطة البدء، وإليه المنتهي، يعتقد كل واحد منهم أنه امتلك البلاد والعباد، وراح يتحكم في كل الأمور، وبلاد علي هذه الشاكلة لن يتحقق لها التقدم أبدا، وقيادة هذا شأنها لايمكن أن تجني غير الهزائم والانكسارات. ** عامل آخر وهو عامل الثقة بين المدرب ولاعبيه من جهة وبين الجماهير والمدرب من جهة أخري، فاللاعبون يعرفون تماما، أن قائدهم لايريد لهم إلا النصر، ويثقون في إمكانياته وقدراته، وهو يعيش بينهم، ووسطهم دائما في الملعب، ولا يعيش في غرف مكيفة أو في إبراج عاجية، يشاركهم الطعام، والتدريب، وساعات السمر، وهو إمامهم في الصلاة، يعرفون أن كل قرار له، يصب في مصلحة الفريق والمنتخب ككل، وليس من أجل صالحه الخاص، وروح الولاء، والانتماء، وانتفاء الذاتية تلك، اتسع مداها ووصل معناها إلي الجماهير، التي تعودت من المدرب علي الصدق والوفاء بالوعود، وعاشت معه روح الانتصارات وبهجتها، وهذا ما نفتقده في عالم السياسة عندنا، وما لا يحرص عليه معظم القادة والمسئولين في بلادنا، فهم في واد والشعب في واد آخر، والدليل علي ذلك كل ما يصدر عن حكومتنا من قرارات، وقوانين، ليست في صالح غالبية الشعب المحدود الدخل، وما أزمة " الغاز" التي تعيشها كل المدن المصرية حاليا، إلا مثال صغير لما يحدث في مصر، ففي الوقت الذي تصدر فيه حكومة" نظيف" الغاز إلي إسرائيل، بأسعار أقل من الأسعار العالمية، يرتفع سعر أنبوبة " البوتاجاز" إلي 35 جنيها، في حالة وجودها. منتخب للمستقبل التفكير في مصر المستقبل غاية وهدف لا بد أن نعمل له جميعا، وقد كان التفكير المستقبلي من أهم دعائم النصر الرياضي الذي حققه " منتخب الساجدين" بقيادة حسن شحاتة. وفي إطار الدروس المستفادة من الإنجاز الرياضي المصري، أضم صوتي لصوت العالم المصري الدكتور محمد النشائي، أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة كمبردج البريطانية، المطالب بضرورة وجود منتخب علمي يرفع اسم مصر عالمياً ويقودها نحو المستقبل، مثلما فعل منتخب كرة القدم بقيادة الكابتن حسن شحاتة، بفوزه ببطولة أفريقيا للمرة الثالثة علي التوالي. ولابد أن نؤكد هنا أن الإصرار والإخلاص والإرادة وتحديد الهدف، هي الخلطة السحرية للنجاح والتقدم علي كل المستويات، وما حققه منتخب شحاتة لمصر وللعرب يمكن تحقيقه في جميع المجالات، وأولها البحث العلمي الذي يحتاج إلي تشكيل منتخب علمي يكون هدفه تقديم حلول عملية لمشاكل مصر والمشاركة والمنافسة بقوة في الهيئات والمراكز البحثية العالمية. وعلي الرئيس مبارك بما يملكه من الحس القومي والشعبي أن يتحرك لإنقاذ التعليم العالي والبحث العلمي في مصر، بإصدار قرارات سيادية، حتي يكون البحث العلمي هو القاطرة التي تقود التقدم في مصر وتعبر بها إلي المستقبل، مثلما حدث في بلدان عدة، بدلاً من حالة الفوضي وانعدام الرؤية لدي القائمين علي البحث العلمي في مصر، ممن يفضلون معه أهل الثقة علي أهل الخبرة. ** كما أن من أسباب وعوامل التفوق الكروي المصري هو كثرة الاحتكاك مع المدارس الكروية المختلفة، وهو ما ساعد اللاعبين علي اكتساب الخبرات الفنية وأصبحوا علي دراية كافية بمستوي المنافسين. وهذه القاعدة أيضا ضرورية في فن قيادة الدول والسير بها في طريق التقدم والحضارة، بمعني أن يكون أعضاء المؤسسة الحاكمة من مستشارين ووزراء ومسئولين كبار، أشخاص مشهود لهم ومعروف عنهم الحكمة والحنكة في العمل، وذلك من خلال احتكاكهم بالناس، وتدريبهم علي فنون الحكم والسياسة والقيادة، وأن يكونوا قد اختبروا في مهام وأعمال أخري، أوأن يكونوا من الذين تمرسوا في العمل القيادي أو السياسي، وهذا بالطبع لا يحدث في مصر أو حتي في غيرها من دولنا العربية، التي يأتي فيها القادة والوزراء من بحار المجهول، حيث لا خيرة أو دراية أو معرفة بمشاكل الناس وقضايا المجتمع. والخبرات الفنية والاحتكاك مع المتنافسيان لا يتحقق في أمور الحكم وقيادة الناس إلا من خلال علاقات ودية وسلمية، وتعاون قائم علي الثقة المتبادلة، وتبادل التأثر والتأثير بين الدول، في ظل علاقات جوار حكيمة تغلب مصالح الأوطان علي المصالح الخاصة للنخب الحاكمة، وهو ما يعد نادر الحدوث في دولنا العربية، التي تتأثر علاقات الجوار والتعاون فيها بمواقف الحكام والقادة وخلافاتهم مع بعضهم البعض، مما يؤدي إلي القطيعة والتشاحن والتباغض، وكل ذلك يؤثر بالسلب علي أمور التنمية والتقدم في بلادنا التي تمزقها خلافات القادة والحكام. وقاعدة أخري جديرة بالاهتمام أعطاها "حسن شحاتة" مكانها الصحيح وهو يبني ويدعم منتخبه ويضعه علي طريق الانتصارات، وهي تواصل الأجيال، وإحداث التناغم بينها، واستفادة كل جيل من خبرات وقدرات الجيل الآخر، حيث أحدث نوعا من التناغم بين طاقات وقدرات الشباب الأكثر سنا، وخبرة وحنكة من هم أكبر عمرا وأطول تجربة، ولهذا عزف الجميع وشاركوا في سيمفونية النصر العملاق الذي حقق المعجزة، وضرب الأرقام القياسية. وإن كان ذلك التضافر والتناغم مطلوبا في السباقات والتنافسات الرياضية، فهو أكثر ضرورة، وحتمي التحقق في مجال قيادة الشعوب وتصريف أمور الدول، فلابد من الدفع بدماء جديدة إلي موقع القيادة والمسئولية، لتعمل جنبا إلي جنب مع أصحاب الخبرة والحنكة، ولكن ما يحدث عندنا علي أرض الواقع يؤكد العمل دائما بمبدأ أهل الثقة، وليس أهل الخبرة، ونادرا ماندفع بالدماء الجديدة إلي المواقع المختلفة، وإذا ما وصل إليها أحد من الدماء الجديدة يكون وصوله عبر جسر"أهل الثقة"وليس لأنه يتمتع بالموهبة أو القدرات التي تؤهله لمكانه. لكل ذلك حقق منتخب" الساجدين" بقيادة حسن شحاتة هذا الانجاز الذي كان نتاجا طبيعيا لعبقرية المصريين، عندما تتاح لهم الفرصة الحقيقية، وعندما يكون القائد علي مستوي طموحات جنوده ودافعا لهم إلي الأفضل، وهذا مانتمني أن تكون عليه امور حكمنا، وقيادة دولتنا، حتي نحقق الإنجاز وتصبح مصر بحق لكل المصريين.