منذ بدأت أحداث نجح حمادي المشئومة لم تتوقف وسائل الإعلام عن تأكيد أن هذا الحادث لا يعبر عن واقع العلاقات بين المسلمين والأقباط في هذا البلد. وعلي صعيد آخر، نجد أن هناك نبرة ألم عند الكثيرين من الأقباط وهم يتحدثون عن ملاحظاتهم في كثير من الممارسات سواء علي المستوي الشعبي، أو المستوي الرسمي، فعلي سبيل المثال مازال مشروع قانون بناء دور العبادة الموحد عالقا، ولم يصدر في شأنه أي قرار. وهناك غياب واضح للأقباط في بعض المناصب الحكومية مثل "رؤساء الجامعات"، وهناك شك وشكوي من التحيز ضد تعيين الأقباط في أماكن يستحقونها بكفاءتهم، ولكن يحرمون منها لدينهم، وكذلك فإنهم يعبرون عن تحيز رجال الأمن ضدهم في أي خلاف أو مشكلة بينهم وبين المسلمين، حتي لو كانت تبدو من أجل خلافات مدنية وليست دينية. وعند الاستماع إلي المرارة التي أصبحت تملأ أحاديث الأقباط بشكل عام وصريح في وسائل الإعلام، خاصة بعد هذا الحادث الذي جاء ليثير آلاما مكتومة، يقف المرء متسائلا هل حقا توجد مشكلة طائفية في مصر؟ وليست هناك إجابة قاطعة علي هذا السؤال، فنحن نعلم جيدا أن هناك كثيرا من المسلمين ومن الأقباط الذين لا يشغلهم التصنيف الديني، والذين يعيشون في محبة وسلام دون أن يجعلوا من الهوية الدينية أمرا يفرقهم عن إخوانهم في الوطن. ولكن نحن نعلم كذلك أن هناك خطاباً سائداً يستخدم الدين ليفرق بين المسلمين والمسيحيين، وهو خطاب في كلا الجانبين. وقد بدأ مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في مصر في السبعينيات وبدأت آثارها تظهر في الثمانينيات. وكلنا يعلم أن الرئيس السابق أنور السادات قد شجع الجماعات الإسلامية علي ممارسة نشاط ديني، كي يضعف من التيار اليساري، ولكن للأسف فإن هذه السياسة قد انقلبت عليه، وأصبح هو ضحية من ضحايا التطرف والعنف. ومع سياسة التهجير للتخلص من كثير من المشاكل الاقتصادية الداخلية، عاد المصريون من بلاد المهجر العربية يحملون أفكارا لا تمت بصلة للإسلام الذي عرفوه وعاشوه علي مدي قرون طويلة، فأصبح المظهر الديني أهم من أخلاقيات الدين، وصار التطرف جزءا من ممارسة الحياة اليومية. بل وتغلغل هذا الاتجاه داخل المدارس في حصص اللغة العربية وحصص الدين. ولا أدل علي ذلك من أن أحد أصدقائي، جاء يشكو من أن ابنه يتساءل لماذا سيعذب الله المسيحيين وهو يؤمنون بالله؟ وعندما سأله والده عن السبب وراء هذا القول، فإنه سارع قائلا، هذا ما تعلمناه في درس الدين اليوم، وذكر الآية التي يرددها المدرس تأكيدا لكلامه. فما كان من والده إلا أن تلي عليه آيات أخري تنفي ما قاله هذا المدرس، توضح أن من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، فله أجره عند ربه، وهناك من الآيات الكثير الذي يحمل هذا المعني، مثل الآية التي تقول" لَيسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيلِ وَهُمْ يسْجُدُونَ. وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ." (آل عمران 11-12) ومن الملاحظ أن هذه الآيات لم تذكر أن أهل الكتاب قد تحولوا إلي مسلمين، ولكن تصفهم بدينهم الذي ينتمون إليه، ولكنها تؤكد علي صحيح إيمانهم واستقامتهم. وبين هؤلاء الآباء المستنيرون له بطريقة بسيطة أن الإسلام هو دين الأنبياء جميعا، وهكذا تحدث عنهم القرآن، ولذا فإنهم وأكدوا له أن الإيمان بالله يجمع بيننا جميعا، وأن الإيمان هو الذي يساعد الإنسان علي حسن الخلق. هكذا استطاع أصدقائي أن يزيلوا بعضا مما أثاره هذا المدرس في نفس ابنهم الصغير من بلبلة، ولكن كم من الأبناء يتناقشون مع آبائهم في مثل هذه الموضوعات، وكم من الآباء قادرون علي تصحيح هذه الترهات. ما أريد أن أؤكد عليه هو أن هذا المدرس هو مثال متكرر في كثير من المدارس. بل إن كثيرا ما يتردد هذا الاستبعاد للأقباط في الدروس الدينية المغلقة، أو في بعض الجوامع. ومهما نشطت وزارة الأوقاف في منع مثل هذه الأحاديث، يظل هذا الفكر المسموم ساريا في الشارع المصري، وهو ما يؤدي بوحدة هذا الوطن إلي التهلكة. وإذا كنت في مقالي السابق قد تحدثت عن ضرورة تشكيل الوعي في اتجاه خلق ثقافة مبنية علي معرفة التاريخ المصري، والاجتماع علي ما يوحد المصريين، لا ما يفرقهم، فمن الطبيعي أن تكون هذه الخطوة هي من خلال عملية تثقيف شاملة تقوم به كل وسائل التنشئة، وأدوات الاتصال الجماهيري والمراكز الثقافية. وفي نفس الوقت فلا بد أن نتذكر أن ما يقال عن سماحة الإسلام، والظهور الإعلامي المستمر لشيخ الأزهر مع البابا شنودة، وموائد الإفطار المشتركة بين المسيحيين والمسلمين، وغيرها من الصور التي تؤكد حسن العلاقة بين الجانبين، أقول إن كل هذه المظاهر لا تنفي أن هناك الكثير مما هو شائع في الفهم الديني عن اعتبار غير المسلمين أيا كانت ملتهم "كافرين"، وهذا الفهم الشائع والخاطيء في حاجة إلي تصحيح من الأزهر الشريف الذي يحمل مسئولية التنوير الديني، وإخراج مصر والعالم الإسلامي من عباءة الظلام التي ستأخذنا إلي مجاهل لا يعلم إلا الله وحده مداها. لا ينبغي أن نقف عند القول أن الدين الإسلامي دين متسامح دون أن نبين كيف أن هذا الدين يقبل الاختلاف، ويعلم المسلم أنه لا يصح أن يحكم علي عقائد الآخرين، وهكذا تعلمنا آداب القرآن وسلوك رسول الله صلي الله عليه وسلم، الذي خاطبه الله سبحانه مبينا له أنه ما هو إلا مذكر وليس علي الناس بمسيطر، والذي قال له في مقام آخر "فذكر إن نفعت الذكري سيذكر من يخشي ويتجنبها الأشقي" والذي أوصاه أن يقول لمن لا يقبل دعوته، اشهدوا بأنا مسلمون. وأمرنا ألا نخاطب أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن. لماذا تترك هذه الأمور معلقة؟ ولماذا تكون السياسة البديلة هي التجاهل المطلق والاتجاه نحو إلهاء الناس بديلا عن الإيضاح.؟ إن المشروع القومي الذي يجب أن نتبناه في الوقت الراهن يجب أن يكون مشروعا تنويريا يعيد للعقل ازدهاره، وللوجدان إشراقه، وللدين عنفوانه، وذلك من خلال تنمية الوعي بتاريخنا من ناحية، والتأكيد علي جوانب المحبة في كل الأديان من ناحية أخري. إنه مشروع جدير بأن تضعه الدولة في مقدمة خططها الاستراتيجية، وتفتح مجالا واسعا لإعادة مناقشة التفسيرات الدينية التي تشدنا إلي الوراء، وتقديم رؤية "الإيمان" باعتباره حالة وجدانية تعبر عن نفسها في محبة الناس دون تفرقة بين دين أو جنس أو لون. وحتي يتم ذلك فلا بد من حركة ثقافية واسعة النطاق، يتحدث فيها الجميع، ولايحتكر فيها رجال الدين الكلام عن الدين، وإنما يكون هناك مجال واسع للتعبير والمناقشة الحرة دون خوف من أي نوع. إن التوتر الطائفي، لن تحله المسكنات، ولكن يجب أن نقتلعه من جذور الفكر الذي يؤدي إليه.