مازال هُناك من يري حتي الآن أن التدخل العسكري المصري في اليمن (1962-1970) كان قرارا غير صائب، وأنه كان مُقدمة لهزيمة مصر في حرب يونيو 1967 والخلاف مع أصحاب هذا الرأي يرجع إلي كيفية النظر لطبيعة الجُغرافيا المُحيطة بمصر وتأثيرها علي أمنها القومي، مع افتراض أن الزمن يؤخذ أيضا في الاعتبار عندما نتعامل مع الجغرافيا السياسية وما يؤثر فيها من عوامل بفعل الناس والسياسة. فالجغرافيا السياسية بمعناها الشامل لا تقتصر فقط علي "الخريطة" والعلاقات المكانية الثابتة، بل تنظر إلي هذه العلاقات كمُتغير يمكن أن يطرأ عليه أحوال كثيرة من جراء فعل البشر الموجودين فوق هذه المساحة المُمْتدة من الأرض. في بداية ستينيات القرن الماضي عاش اليمن حالة تحول ثورية من عصر التخلف والانحطاط والإمامة إلي العصر الحديث، وكان القرار المصري مُساندا لهذا التغيير علي أساس أن ذلك يصب في مصلحة مصر القومية من ناحية، ويدفع عنها تهديدات إقليمية مُتربصة من ناحية أخري. وبصرف النظر عن طبيعة الخلاف الذي دار حول قرار إرسال قوات مصرية إلي اليمن إلا أن السؤال أُعيد طرحه مرة أخري عندما قررت مصر إرسال قوات إلي الخليج في 1991 بعد احتلال صدام حسين للكويت وفرض حالة من التهديد الخطير علي المملكة العربية السعودية وباقي دول الخليج. اليمن الآن ومعه دول الخليج يمرون معا بمرحلة تاريخية قلقة مع اختلاف التشخيص في الحالتين، بصورة جعلت الرئيس مبارك مُؤخرا يكرر عن يقين أن مصر مسئولة بصورة مباشرة عن أمن الخليج، كما أنها تُتابع باهتمام ما يجري علي الخريطة اليمنية من مظاهر عدم الاستقرار الذي قد يتطور فجأة إلي نتائج مُؤثرة تهدد أمن مصر والجزيرة العربية والبحر الأحمر والقرن الإفريقي. سوف نُركز في هذه المقالة علي الحالة اليمنية، لأن مُستوي التوتر فيها وعدم الاستقرار ينذر باحتمالات انهيار في الكيان السياسي اليمني نفسه. يواجه اليمن حاليا تحديات مُركبة علي الصعيدين السياسي والاقتصادي سوف يكون لهما تأثيرات عميقة علي الصعيد الأمني. فاليمن يواجه عصيانا في الشمال، ومُحاولات انفصال في الجنوب، ومَوجة إرهاب قوية من فعل تنظيم القاعدة، فضلا عن ضغوط اقتصادية هائلة، وكوارث بيئية ليست الدولة اليمنية مهيأة للتعامل معها وقد تُُفضي هذه التحديات مع الوقت إلي نتائج خطيرة قد تُؤثر علي بقاء كيان الدولة نفسه. وآخر الحوادث التي وضعت اسم اليمن علي شريط الأنباء ما أُعلن عن شاب نيجيري حاول تفجير طائرة وهي في طريقها إلي الولاياتالمتحدة، وأن هذا الرجل قد تلقي تدريبا في اليمن، وكان تنظيم القاعدة قد أعلن مسئوليته عن الحادث. وقد تضمنت المعلومات التي تم جمعها بأن نوعية المُتفجرات المُستخدمة في العملية الإرهابية والتي فشلت أجهزة التفتيش في التعرف عليها هي من نفس نوعية المُتفجرات التي استخدمت في محاولة اغتيال الأمير السعودي محمد بن نايف نائب وزير الداخلية والمسئول الأول عن ملف الإرهاب في المملكة. والمُدهش أننا عندما نتكلم عن الإرهاب يتبادر إلي ذهننا أولا أفغانستانوباكستان، ومن قبل كان يضاف إليهما المملكة العربية السعودية بسبب أن عدد المشاركين في عملية 11 سبتمبر كان معظمهم من السعودية، ولم تكن اليمن تُذكر بنفس الدرجة من الأهمية مع أن عدد اليمنيين في مُعتقل جوانتانامو قد وصل إلي 95 يمنيا. اليمن الآن يحتضن داخله "تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية" تحت قيادة اليمني "ناصر الوحيشي" والسعودي "سعد الشهري"، والأخير من الذين أُفرج عنهم من مُعتقل جوانتانامو. وخلال السنة الماضية أُغتيلت أعداد من العاملين في مجال محاربة الإرهاب داخل اليمن بواسطة هذه الجماعات، كما ضَبطت قوات الأمن السعودية في إبريل 2009 بالقرب من الحدود اليمنية خمسة وثلاثين سُترة انتحارية مُفخخة من الأنواع المُستخدمة في العمليات الانتحارية. كما اُكتشفت أماكن يتم داخلها سجن المَخطوفين وتعذيبهم بواسطة الناشطين من تنظيم القاعدة. ولا يوجد ما يؤكد أن تنظيم القاعدة في اليمن علي علاقة تنظيمية أو قيادية مع تنظيم القاعدة في أفغانستان ولكن الأرجح هو أن أعدادا من إرهابيي القاعدة قد غادر أفغانستان تحت وطأة الحرب هناك، وجاء إلي اليمن واتخذها قاعدة يمتد نشاطها داخل الجزيرة العربية والقرن الإفريقي. ولا يجب أن ننسي أن الهجوم الانتحاري علي المدمرة الأمريكية "كول" (12 أكتوبر 2000) أثناء تزودها بالوقود علي ساحل عدن باليمن قد تحقق بمساعدة وتخطيط نُشطاء يمنيين. لقد كانت اليمن ومازالت مسرحا مَفتوحا للبحث عن الإرهابيين والقضاء عليهم باستخدام الطائرات بدون طيار ووسائل أخري. وبسبب توطن الإرهاب والعنف في اليمن إلي درجة مُقلقة قررت المملكة المتحدة تنظيم مُؤتمر دولي عن "الإرهاب في اليمن" في 28 يناير القادم. لا يمثل الإرهاب المُشكلة رقم واحد في اليمن، بل لعله مُستوطن هناك بسبب عوامل أخري اقتصادية وبيئية أوصلت اليمن إلي أوضاعه الحالية. وبالنسبة للاقتصاد يمثل دخل النفط 80% من موارد اليمن. والمشكلة أن النفط في سبيله إلي النضوب خلال أقل من عشر سنوات. فبعد أن كان اليمن منذ خمس سنوات ينتج سنويا نصف مليون برميل في السنة، أصبح لا ينتج حاليا إلا 180 ألف برميل فقط. وقد عَوض ارتفاع أسعار النفط في 2008 النقص في الإنتاج، إلا أن انخفاض الأسعار حاليا قد يؤثر بشكل كبير علي الاقتصاد اليمني، ومن المعروف أن نصف الشعب اليمني يعيش علي حوالي دولار واحد تقريبا في اليوم، كما وصلت نسبة البطالة بين السكان إلي حوالي 35%. وبرغم وجود احتياطيات مُؤكدة من الغاز الطبيعي في اليمن إلا أن ذلك لم يستثمر بجدية حتي الآن. كما أن حظ اليمن من المُساعدات الأمريكية قليل بدرجة ملحوظة، فبرغم خطورة الأوضاع داخلها لا يصلها من المعونات الأمريكية إلا حوالي 20 مليون دولار في السنة في حين تحصل باكستان علي بليون دولار في السنة الواحدة. المُشكلة الثانية تتعلق بالمياه حيث يعاني اليمن من نقص خطير في المياه. ويعتمد اليمنيون علي الآبار الجوفية ومعظمها في طريقه إلي الجفاف بسبب الاستخدام غير الرشيد للمياه. والنقص في المياه يؤثر علي الزراعة كما يؤدي إلي نزاعات داخلية، ويعتقد أن 80% من النزاعات تحدث بسبب الصراع علي المياه. والمشكلة أن مناطق واسعة ومدن حضرية علي وشك أن يهددها اختفاء المياه تماما وليس فقط نقصها، ولا يوجد في اليمن حاليا مشروعات عملاقة لتحلية المياه من البحر. وبسبب مساحة اليمن الواسعة _مقارنة بدول الخليج- وطبيعة أرضها الجبلية الوعرة، قد يصعب ضخ المياه إلي الأماكن المرتفعة. واليمن كانت من بين الدول العربية التي عبرت عن رغبتها في دخول عصر الطاقة النووية السلمية حتي يمكنها استخدام ذلك في تحلية المياه. ومن المُهم التنويه أن اليمن يعاني أيضا من مشكلة ديموجرافية بسبب ارتفاع عدد السكان حيث يعيش في اليمن حاليا حوالي 28 نسمة وسوف يصل الرقم في 2020 إلي أربعين مليونا. حالة اليمن مُقلقة لأطراف كثيرة، وهناك كثير من المراقبين يرون أن اليمن بدون عناية الدول العربية ومساندة الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي يمكن أن ينهار فجأة ويتحول إلي نموذج مُشابه للصومال. وبالفعل هناك قدر كبير من التعاون بين تنظيم القاعدة في اليمن وبين الحركات الإسلامية المُتشددة في الصومال، ولو انهارت اليمن سوف تصبح ثُقبا أسود عظيما قادرا علي توريط مصر والسعودية في نزاعات لا تنتهي، وسوف يخرج منها ما يهدد الملاحة في قناة السويس. ومن المعروف أن حوالي 30 مليون برميل من النفط تمر كل يوم في مياه اليمن الإقليمية. ومُجرد قرب اليمن من أكبر خزان للنفط في العالم (المملكة العربية السعودية) يمثل في حد ذاته تهديدا مُباشرا للدول الغربية فضلا عن وصول هذا التحدي إلي منطقة القرن الإفريقي. لقد نجح الإرهاب ذو الطابع الإسلامي المُتشدد في تكوين عُقد مُلتهبة علي امتداد الشرق الأوسط الكبير ومن بينها عقدة اليمن، ومن هذه العُقد تنطلق الهجمات في كل الاتجاهات بهدف إبطال جهود الإصلاح في المنطقة وإعاقة التقدم تجاه مُجتمع حر يؤمن بالديمقراطية والتقدم والحفاظ علي حقوق الإنسان.