استراتيجية أوباما الدولية دخلت مرحلة التنفيذ، والبداية جاءت في 17 سبتمير من خلال إعلانه أمام الكونجرس الأمريكي عن الغاء برنامج الدرع الصاروخي، الذي تكلفت مراحله الأولي 150 مليار دولار، ولقي هذا القرار ترحيباً بإلغا من جانب المؤسسات والمراكز الاستراتيجية الدولية، خاصة بعد أن وقع عدد كبير من العلماء بينهم 15 عالماً حاصلون علي جوائز "نوبل" في الفيزياء والرياضيات ومجالات علمية متقدمة أخري علي رسالة يناشدون فيها الرئيس أوباما إلغاء برنامج الدرع الصاروخي لعدة أسباب، في مقدمتها عدم فعالية هذا البرنامج في التصدي للصواريخ المهاجمة بنسبة مائة بالمائة، علاوة علي التكاليف الهائلة التي تتعدي 2 مليار دولار، وكذلك عودة سباق التسلح خاصة أن روسيا الاتحادية اعتبرت أن نشر الولاياتالمتحدة وحدات رادار وبطاريات إطلاق الصواريخ في "بولندا" و"تشكيا" من قبيل الأعمال الاستفزازية والعدائية ضد أمنها القومي، فلم تنس روسيا أن بولندا وتشكيا كانا ضمن حديقتها الغربية.. وجزء من المنظومة الدفاعية التي تم حلها "حلف وارسو"، أيام كانت تسيطر علي أوروبا الشرقية، ولم تستطع أن تقبل ان تصبح "وارسو" من مقر الحلف الذي تقوده إلي قاعدة للصواريخ الأمريكية. وكسب أوباما بهذه الخطوة تعاطف الرأي العام الأمريكي الذي كان مستنكراً للانفاقات الهائلة علي برامج عسكرية مختلفة وحروب خارجية استنزفت الاقتصاد الأمريكي الذي بئن من متاعب الأزمة المالية العالمية التي انتهت مرحلتها الأولي بشقها المالي عبر اصلاح النظام المالي والمصرفي، فيما تظل الأزمة مستمرة في أبعادها الهيكلية الأخري خاصة تعثر صناعة السيارات الأمريكية بالكامل والخراب الذي حل بمدينة صناعة السيارات في "ديترويت" والمحاولات المستمرة لانقاذ شركة "جنرال موتورز" العملاقة التي أصبحت تاريخياً رمزاً للصناعة الأمريكية، علاوة علي زيادة مشاكل البطالة في ظل وجود جيش من المتعطلين يصل عدده إلي 15 مليون أمريكي دون عمل. وتمكن أوباما عملياً في استثمار الغاء برنامج الدرع الصاروخي نحو دعم الحركة التي يخوضها لإصلاح نظام التأمين الصحي، في ظل وجود 42 مليون أمريكي بدون تغطية صحية، علاوة علي الفساد والمشاكل الرهيبة التي يعاني منها هذا النظام والتي جسدها المخرج الأمريكي الشهير مايكل مورفي فيلم سينمائي حول هذا النظام الذي حولته شركات التأمين الصحي إلي استثمار مربح لها وجنت مليارات الدولارات سنوياً أرباحاً علي حساب المؤمن عليهم الذين حرموا من أبسط امكانيات الرعاية الصحية لتوفير الأموال للشركات. مجموعة ال20 تقود العالم وفيما كان أول ملامح الاستراتيجية الأمريكيةالجديدة هي الغاء برنامج الدرع الصاروخي الذي أثمر أيضاً عن كسب دور روسيا بسرعة وانهاء جميع مخاوفها، فإن المرحلة الثانية لتلك الاستراتيجية تمثلت في تحويل مجموعة الثمانية الكبار التي كانت أصلاً مجموعة العظماء السبعة قبل إضافة روسيا إليها، إلي مجموعة ال20 حيث تم ضم أهم الدول النامية الكبري والاقتصاديات الضخمة إلي تلك المجموعة الجديدة، وهي جنوب أفريقيا من القارة الأفريقية والمملكة العربية السعودية في العالم العربي، والصين وكوريا الجنوبية واندونيسيا والهند من آسيا وتركيا والبرازيل والأرجنتين، والمكسيك، اضافة إلي الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية الكبري. وقد استطاعت هذه المجموعة عملياً التصدي للأزمة المالية العالمية وعقدت ثلاثة اجتماعات خلال 9 أشهر، واتفقت في اجتماعها الأخير في ولاية "بترسبرج" الأمريكية الأسبوع الماضي علي عدم سحب الأموال التي تم ضخها في المؤسسات المالية واستمرار مراقبة أعمالها، والتعاون في مجال المعلومات والشفافية فيما يتعلق بالنظام المالي العالمي خاصة أن عملية الانهيار التي بدأت في الولاياتالمتحدة امتدت بسرعة إلي بقية أنحاء العالم وهددت بانهيار النظام الرأسمالي وبقية اقتصاديات الدول الناشئة ذات الأنظمة الاقتصادية المختلفة، حتي تلك الأنظمة المختلطة بالنظام الحر اقتصادياً والأيديولوجية الشيوعية كما هو الحال في الصين. كما تم اقرار اتفاقيات اقتصادية أخري في مجالات حرية التجارة، خاصة في مجال "النفط" للحفاظ علي مستوي معين في الأسعار يسمح بالتوازن ويلغي امكانية حدوث حرب أسعار أو انهيار في أسعار النفط، والافصاح عن المخزون العالمي واحتياجات الدول من الاستهلاك. وتوصلت القمة إلي اتفاق تاريخي حول الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية وهي مجالات شهدت اعتراضات من الإدارة الأمريكية السابقة، والتي عرقلت التوصل إلي اتفاق دولي لمتابعة اتفاقية "كيوتو" وغيرها في ظل انتاج الولاياتالمتحدة لأكبر كمية من الكربون ورفضها الاستجابة للطلبات الدولية. التخلص من الأسلحة النووية والتطور الثالث المهم يتمثل في ترأس الرئيس أوباما لجلسة مجلس الأمن التي ضمت لأول مرة في تاريخ المجلس منذ عقود كل رؤساء الدول الخمس عشرة الأعضاء في مجلس الأمن "5 دائمون ضد 10 متغيرين"، وغاب فقط الزعيم الليبي معمر القذافي الذي حضر اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وألقي خطاباً مطولاً دعا فيه إلي تغيير ميثاق الأممالمتحدة والغاء حصة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، بحيث تصبح القيادة العالمية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو الاقتراح الذي لم يحظ بالتأييد المطلوب، وبالتالي توجه القذافي إلي فنزويلا للمشاركة في القمة الأفريقية اللاتينية كأكبر تجمع لدول العالم الثالث في القارتين. أما ما تم في اجتماع مجلس الأمن فهو قد شهد قرارات تاريخية بدعوة دول العالم النووية إلي التخلص تدريجياً من أسلحتها النووية، والدخول في مفاوضات لهذا الغرض، وكانت الخطوة الأمريكية بإلغاء الدرع الصاروخية مشجعة جداً علي انجاح أعمال قمة مجلس الأمن، التي قررت البدء في إجراء مفاوضات سواء جماعية أو ثنائية بين الدول النووية لبناء مزيد من إجراءات الثقة للتخلص من الأسلحة النووية. مواجهة إيران وفي نفس الوقت فإن هذا الاجتماع واجتماع قمة ال20 قد شهدا موقفاً موحداً لدول العالم الكبري علي وجه الخصوص ضد البرنامج النووي الإيراني، وهو موقف لم يحدث منذ بداية هذه الأزمة، وتعهدت روسيا بإيقاف تصدير صواريخ بعيدة المدي إلي إيران، وكذلك قررت عدة دول من التي تصدر تكنولوجيا متقدمة لإيران لمساعدتها في مجال بناء قوتها النووية، مواجهة تلك الإجر اءات إذا رفضت إيران القبول بالشروط الدولية لمراقبة أنشطتها النووية. وتم تفويض الدول دائمة العضوية الخمس بالإضافة إلي ألمانيا بالتوصل إلي اتفاق حاسم مع إيران خلال الاجتماع الذي يعقد اليوم في جنيف وانهاء كل صور المراوغات ومحاولات إيران لكسب الوقت واعطائها مهلة بنهاية العام للتوصل إلي اتفاق يتيح لإيران بناء برنامجها النووي للأغراض السلمية تحت الرقابة الدولية والبدائل المتاحة هي بدائل سياسية اقتصادية، إذ تم استبعاد أي إجراء عسكري والبدء بإجراءات الحصار الاقتصادي المشدد وفي تقدير الخبراء أنها كافية لردع إيران وجعلها تقبل بإجراءات التفتيش والرقابة. إسرائيل.. استثناء دولي وفيما حاول العالم العربي طرح قضية البرنامج الإسرائيلي والأسلحة النووية التي تحوزها وعدم قبول إسرائيل الانضمام إلي الاتفاقيات الدولية، فإن تلك الجهود لم تنجح كالمعتاد في ظل التركيز الدولي علي البرنامج الإيراني والبرنامج الكوري تاليا، ثم الأوضاع في أفغانستان وباكستان. ويحتاج العالم العربي إلي بذل مزيد من الجهد لوضع قضية الشرق الأوسط ضمن أولويات مجموعة ال"20" والإدارة الأمريكية في ظل حالة الانقسام الفلسطيني والعربي وجمود المواقف، فيما الملف الإيراني يكسب الصدارة لسخونته وخطورته، وهو ما نجحت إسرائيل فيه من وراء الستار في تحريكه واظهار مخاطره. الاستراتيجية العالمية الجديدة دخلت حيز التنفيذ والخطوات متتابعة اقتصادية وسياسية واستراتيجية ودفاعية، وما حدث خلال الأسبوعين الماضيين ومستمر في الحدوث جزء من استراتيجية عالمية جديدة تظهر أن أوباما بدأ التحرك بالفعل، وأن لديه أكثر من مجرد الكلام الجيد والخطب البلاغية.