مبررات كثيرة تجعلنا نفكر في مستقبل هذا البلد لأنه مستقبلنا جميعا. وينعكس هذا التفكير متحررا ليتحول إلي عدة اسئلة وإطروحات تشغل كل اللقاءات تتناقلها المنتديات بل تتحول احيانا إلي مناقشات ساخنة. وتارة هادئة، إلا ان معظم هذه المحاورات غير مرتبة. لكن يشعلها الحماس في حب الوطن وتسيطر عليها الرغبة في انجاب فكر جديد، إلا ان هذه الأخيرة لا تتأتي عبر مناقشات تعبر في سطحية وتخوف وقلق. مهما كانت ملتهبة بحب الوطن. ومن هنا لابد ان تكون لنا رؤية وروية، لعلنا لا ننسي ان ميلاد الدولة المدنية الحديثة التي اسسها محمد علي وشجع علي تأكيد بزوغها الحملة الفرنسية علي مصر. وحينما أعلن الزعيم سعد زغلول اطلالة ثورة 1919 أكد بشدة علي ميلاد فجر الوطنية المصرية النقية، فقد كانت حياتنا السياسية والاجتماعية كباقة ورد تجمع زهرة ليبرالية وأخري علمانية مع أزهار أخري من بساتين حولها، ومن اسرار عظمة هذا الحشد الجميل هو ذلك العنصر الواحد للمسلم والمسيحي في هذا البلد، ثم جاء عام 1928 لتظهر جماعة الإخوان المسلمين وقد تحالفوا مع الملك وليس مع الشعب فاعلين ذلك تحت شعار الخلافة، وهذا ما يدفعنا إلي ضرورة توضيح الفارق بين حب الوطن وبين التشدد للعقيدة الدينية، نحن جميعا نحب الوطن وكل منا يتمسك أيضا بعقيدته بشدة.. ولكن الخطيئة الكبري هي الخلط بين هذا وذاك ومن هنا تأثرت الوطنية المصرية اي تأثر، فإذا ما شئنا ان ننظر للوطن فلتكن نظرتنا له شاملة دون تفرقة بين مكوناته من أصحاب العقائد أو بين المذاهب في العقيدة الواحدة أو حتي بين الرجل والمرأة. كل ماذكرناه مختلف عقائديا وفسيولوجيا وفكريا.. ولكن كل هؤلاء يستظلون بمظلة واحدة وتشرق عليهم شمس واحدة وتجمعهم أرض ونيل تعانقا علي مر الزمان.. من هنا أيضا تأتي حتمية المشاركة العملية والوجدانية بل والروحية بين كل هؤلاء وليس من حق أحد مارق ان يزايد علي أي منها! ان كل الذين وفدوا إلي مصر من مختلف الجنسيات والاديان انصهروا في بوتقة الحب المصرية.. ولا ننسي بحال الشعار الخالد الذي يقول "الدين لله والوطن للجميع" وهو شعار جيد وواقعي مازال يؤمن به العديد من المثقفين والادباء والكتاب بل مساحة لا بأس بها من المواطنين. وهذا الشعار مدعاة طيبة يفتخر بها ويذكرها علي مدي التاريخ كل مصري غيور علي هذا الوطن. ويحدثنا التاريخ عن الراحل العظيم محمد فريد من خلال سطور رسالته التي بعث بها من سويسرا قائلاً: (لنهنئ الأمة المصرية علي تضافرها وتضامنها في المطالبة بحق أمنا مصر المظلومة، لا فرق في ذلك بين ابنائها وبناتها مسلمين واقباط). يؤكد لنا ذلك تلك الثوابت المهمة التي كونت واقعاً مصرياً في وقت مضي واقعا يرفض التمييز الذي لاحت لنا ثعالبه الصغيرة علي الساحة المصرية مؤخرا لنجد امثلة كثيرة لذلك منها شعارات الجماعة (التي مازالت توصف بالمحظورة) هذه الشعارات ترفض الاقباط وتحاربهم ومعهم المرأة أيضا. ولا أنسي ما قاله ذات يوم الشيخ السحاوي في حديث له مع جريدة الأهالي.. (انني اطالب بان يقدم البابا شنودة الجزية ويدفعها صاغرا!!) وهناك عبارات عديدة اصدرها قادة الإخوان ضد المسيحيين وقد نشرناها عبر مقالات سابقة في العزيزة (نهضة مصر). ولعل من قبض عليهم مؤخرا من جماعات الاخوان يدعم تماماً ما ذكرته. لماذا تنسي هذه الجماعة ان مصر هي صانعة التاريخ وليس لجماعة مثلها ان تصنعه.. نعم وللأسف نحن في مأزق وطني كبير.. فمصر الحب والسلام مصر الوحدة هاهو ثوب وحدتها يحاول البعض ان يقدد نسيجه.. مصر التسامح والتآخي يحاول البعض ان يحولها إلي كيان داخل كيان في انتقال غير مبرر لتتحول إلي الصراع الدنيوي دون النظر إلي حرية الشعوب واسعادها.. ان قيادة الاوطان ليست لعبة بين عشاق المجد الزائف والمغامرة.. فليس من حق أحد ان يقامر بسلام الوطن إذا قلنا ان مصر يجب ان يكون قلبها متسعا للاحزاب التي تبني ولا تهدم وتقدم افكارا لاجل سعادة المواطن وليس التعتيم.. مصر هي المسجد والكنيسة مع رجال تجمعهم المبادئ الاساسية التي تتفق عليها الأديان وتعتبرها اسمي قيم الحياة الإنسانية السعيدة. مصر أيضا هي الانفتاح وليس الانغلاق كما انها انجبت ابطالا في الحروب لها أيضا أولادها في العلوم والآداب.. هي أيضا الهرم والنيل والحب هي أناشيد اخناتون في نشوته بأن هناك توحيدا.. وهذا ما فسرته واسردته رسالات السماء. فلماذا إذا ذلك الاشتباك بين السياسة والدين أو بمعني بين عقول لاتدرك هذا ولا ذاك آخذة بالعناوين البراقة فقط. فما يحدث هو وأد للمواطنة بتلويث ثوبها الابيض الناصع والنقي.. ومن هنا نري مع الاحداث ان الوطنية المصرية كثيرا ما تصبح في حالة حداد علي ما يصيب كينونتها ويكدر صفوتها! نحن نحب عقائدنا وهي التي تهذب اخلاقنا وتنظم حياتنا. ونقول بصوت عال لا للدولة الدينية بل ليكون لنا وطن تبنيه وتتبناه سياسة وطنية متحدة وموحدة تخدم كل شعب مصر.. نريد وطنا طريقه الليبرالية تسوده الحرية وتحكمه العدالة بأنصع صورها.. نريد وطنا تتوهج فيه العدالة هي تاج المواطنة وطنا يتسع للكل. يسعد الكل. أذكر ذات مرة في لقاء مع أخ مسلم يدعي (عارف) من ألبانيا كان يعمل في تصدير بعض المنتجات المصرية إلي بلده كان ذلك تقريباً في مايو 1987 ودارت بيننا أحاديث ودية فقد كان يتحدث العربية ومثقف. وتطرق الحديث إلي ان سألته كيف حالكم في بلدكم وهل لك ان تعطني معلومات عنكم.. قال عارف: نحن في البانيا تجمعنا اكثر من 16 قومية متباينة في الأعراق والتقاليد لكننا رغم ذلك نعيش في سلام دائم. واحترام متبادل ومن الاشياء الجميلة لدينا انه ليس من حق أي مواطن ان يتدخل في شئون أي مواطن آخر أو يضايقه. نحن نعمل في صمت ونعيش في سلام.. سكت برهة ثم سألته ما رأيك وانطباعك عنا هنا في مصر رد الأخ عارف قائلا: انتم شعب طيب ولكن الكثيرين منكم يتكلمون كثيرا ولا يعملون وكثيرون يتكلمون ويتناقشون فيما لا يعرفون! حاولت ان اصحح الصورة للأخ عارف لكنه بادرني قائلاً أنا مسافر ويسعدني ان ابلغك انني سأحضر في البانيا بعد أيام مهرجانا لتكريم رجلكم العظيم نجيب محفوظ فهو ضيف علي المهرجان في البانيا.