خلال الأسابيع القليلة الماضية وقف العالم علي أصابعه مرتين، الأولي عندما أطلقت إيران صاروخا يحمل قمرا صناعيا نجحت في وضعه في مدار حول الأرض، والثانية عندما أعلنت كوريا الشمالية أنها في طريقها لوضع قمر اتصالات في الفضاء مُستخدمة في ذلك أحد صواريخها العملاقة؛ وعندما أطلقته ثارت ضدها زوبعة دولية علي أساس أنها تنتهك قرارات لمجلس الأمن صدرت ضدها في 2006 بعدم إجراء تجارب لصواريخ باليستية بعيدة المدي. وحتي الآن هناك شكوك أن القمر الكوري قد نجح في احتلال مدار حول الأرض، أو أنه كان موجودا من الأصل علي متن الصاروخ، وتقول المصادر الأمريكية التي راقبت عملية الإطلاق أن الصاروخ بمراحله المختلفة قد سقط في النهاية في المحيط. والمشكلة في الحقيقة لا تتعلق بالقمر الصناعي، فلا أحد يتكلم عنه بصرف النظر عن مهمته للتجسس أم للاتصالات، ولكن الخوف والاحتجاج يأتي من الصواريخ القادرة علي وضع قمر حول الأرض، وهذا يعني أن الصاروخ يمكنه الوصول إلي مسافات بعيدة عابرة للقارات قد تطول أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا إذا استخدم عسكريا ضد هذه البلاد. وربما نفهم الآن لجوء الولاياتالمتحدة إلي تطوير نظام دفاعي ضد الصواريخ يراه البعض أنه موجه إلي الصين في حين أن أمريكا تقول إنه لحمايتها من الصواريخ الإيرانية والكورية الشمالية وهما دولتان تحيط بهما شكوك نووية. وربما نفهم الآن السبب وراء احتجاج حلف الناتو علي التجارب الصاروخية الإيرانية والكورية الشمالية الأخيرة. نحن الآن أمام مشكلة "انتشار صاروخي" بعد أن كنا نتحدث عن مشكلة "انتشار نووي"، وبطبيعة الحال هناك علاقة بين الاثنين. فالصواريخ تعتبر أفضل طريقة لتوصيل القنبلة النووية إلي أهدافها مقارنة بالطائرات التي يمكن اعتراضها بسهولة. وفي حالة الانتشار النووي ومحاولات الحد منه، اهتدي العالم إلي المعاهدة الشهيرة لمنع الانتشار النووي والتي وقعت عليها كل دول العالم ما عدا الهند وباكستان وإسرائيل، وانسحبت منها كوريا الشمالية، ومن أجلها أُنشئت الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمراقبة تنفيذ المعاهدة داخل الدول الموقعة عليها. وبرغم وجود المُعاهدة والوكالة، فقد كانت هناك محاولات عديدة لتجاوزها من الدول الموقعة عليها من خلال تبني مشاريع تبدو من الظاهر أنها للاستخدام المدني لكنها تتجه في النهاية إلي الاستخدام العسكري. والحجة معروفة، حيث تبدأ الدولة في تبني عملية تخصيب اليورانيوم بغرض مُعلن هو استخدام اليورانيوم المخصب في مفاعلات توليد الطاقة، ثم عند مرحلة معينة يمكن للدولة التحول إذا أرادت إلي الاستخدام العسكري عن طريق الارتفاع بدرجة التخصيب إلي المستوي المطلوب لإنتاج قنبلة ذرية، أو علي الأقل أن تكون قريبة من تلك الخطوة إذا تأزمت الأحوال الدولية. الانتشار الصاروخي له أيضا مخرج مماثل وهو ادعاء العمل في مجال الفضاء السلمي وإطلاق أقمار صناعية للاتصالات أو التنبؤ بالطقس أو غير ذلك من التطبيقات المدنية. ويكفي أن تقول ذلك لتقوم بتطوير صاروخ عملاق متعدد المراحل يمكن تجربته في وضع قمر صناعي في مدار حول الأرض، كما يمكنك استخدامه عسكريا لضرب أهداف بعيدة علي الأرض، وسيكون الأثر أعظم لو حمل الصاروخ شحنة نووية بدلا من شحنة متفجرات تقليدية. وعدد الدول التي لها أقمار صناعية حول الأرض يصل إلي حوالي خمسين دولة، لكن عدد الدول التي أطلقت أقمارا بصواريخها لا يتعدي الثمانية، والباقي لجأ إلي الدول الأخري لإطلاق أقماره كما في حالة مصر. والدول الثمانية التي تملك قدرات صاروخية لوضع أقمار في الفضاء هي: الولاياتالمتحدة وروسيا وأكرانيا واليابان والصين والهند وإسرائيل وإيران والاتحاد الأوروبي. لا توجد معاهدة "لمنع الانتشار الصاروخي" مثل معاهدة "منع الانتشار النووي"، ولا توجد مناطق "خالية من الصواريخ" مثل المناطق المعروفة "الخالية من الأسلحة النووية". الموجود بالنسبة للصواريخ اتفاقات محدودة بين الدول تتعهد فيها الحد من نقل التكنولوجيا والمكونات الحساسة إلي الدول الأخري، لكن لا يوجد آلية مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتفتيش علي الدول ومنع امتلاكها للقدرات الصاروخية. وفي حالة الدول التي وقعت تحت الحصار الدولي أو تعرضت لغزو عسكري مثل العراق فإنها تخضع في النهاية إلي عدم الدخول في المجال النووي، كما أن مشاريعها الصاروخية قد تُلغي بالكامل أو يفرض عليها حد في مدي الصواريخ وطبيعة استخدامها. وهذا الفرض بالنسبة للصواريخ قد يطبق من مجلس الأمن علي دولة معينة أو منطقة أو يفرض من دولة أو مجموعة من الدول ثم يباركه مجلس الأمن بعد ذلك. وحتي لا تختلط الأمور لا يوجد وجه للمقارنة بين صواريخ حماس أو حزب الله أو حتي الصواريخ التي تمتلكها بعض دول منطقة الشرق الأوسط ولا يتعدي مداها 300 أو 500 كيلومتر وبين الصاروخ القادر علي حمل قمر صناعي ووضعه في مدار حول الأرض. ففي الحالة الأخيرة نحن نتكلم عن صاروخ قد يصل طوله إلي ثلاثين مترا، متعدد المراحل، وكل مرحلة بها محرك صاروخي به كمية هائلة من الوقود الخاص القادر علي إنتاج قوة دفع هائلة من خلال محرك قادر علي تحويل طاقة الوقود إلي سرعة عالية في دقائق معدودة. ودول كثيرة يمكنها بناء وتصنيع قمر صناعي لكن عددا محدودا فقط من الدول يمكنه تطوير وامتلاك صاروخ باليستي عابر للقارات، أو صاروخ قادر علي وضع قمر صناعي في مدار حول الأرض. لقد بدأ عصر الصواريخ الحديث مع بداية القرن العشرين بوصفها الوسيلة الوحيدة للتغلب علي الجاذبية الأرضية والفرار منها إلي كواكب أخري بعيدة، كما أنها الوسيلة الوحيدة التي يمكنها العمل خارج الغلاف الجوي فوقودها _ علي عكس وقود الطائرات _ ليس في حاجة إلي الأكسجين الجوي لأنه موجود في تكوينه الكيماوي. ومعظم الرواد في مجال الصواريخ كانوا ينظرون إلي المحرك الصاروخي كوسيلة لغزو الفضاء، ومن أشهرهم روبرت جودارد الأمريكي الذي حول الأفكار النظرية للصواريخ إلي تطبيقات عملية، وكتب دراسته الشهيرة "طريقة للوصول إلي الارتفاعات العالية". وتم ترجمة ذلك عمليا بواسطة الاتحاد السوفيتي السابق الذي وضع أول قمر صناعي "سبوتنيك-1" حول الأرض في 4 أكتوبر 1957، وأطلق أول رجل إلي الفضاء "جاجارين" ليدور حول الأرض في 12 إبريل 1961، ثم بفضل الصاروخ العملاق ساتيرن 5 نجحت الولاياتالمتحدة في إنزال أول إنسان علي القمر في 11 يوليو 1969. الألمان هم أول من انتبه إلي الصواريخ كوسيلة استراتيجية "للتأثير العسكري البعيد"، وترجموا ذلك في سلسلة الصواريخ V-2 التي استخدمت في ضرب العاصمة البريطانية لندن في الحرب العالمية الثانية لكن الصواريخ برغم ذلك لم تكن من نجوم هذه الحرب. ومع بزوغ العصر النووي واستخدام الطائرات في ضرب هيروشيما ونجازاكي بالقنابل النووية بدا أن العصر القادم سوف يحتاج إلي الصواريخ الباليستية للقيام بواجب حمل السلاح النووي وتوصيله إلي الهدف في دقائق معدودة. وتحولت الصواريخ إلي وسيلة مرنة ورخيصة لضرب الخصم من البر والبحر والجو، وصارت علما علي استراتيجيات الردع المتبادل والدمار المحقق، حتي وصلت القصة إلي البحث عن وسيلة للدفاع ضدها. وهو ما اهتمت به الولاياتالمتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة خوفا من مصادر تهديد جديدة صارت علي بعد خطوات قليلة من امتلاك فن "التأثير البعيد" في صورته الصاروخية كما في حالتي كوريا الشمالية وإيران. وتتكرر بذلك نفس معضلة الاختباء وراء تطبيق سلمي وهو وضع قمر في الفضاء من أجل امتلاك صاروخ يمكن أن يتحول بسهولة إلي سلاح عسكري يحمل رأسا نووية.