اذا كان الاقتصاد علماً محايداً ليس له دين، فمما لا مراء فيه ان الاقتصاد علم من العلوم الانسانية التي تتأثر بتراث الشعوب وثقافتها وحضارتها، ولكن في نفس الوقت علم له قواعد اساسية مشتركة تنطبق علي الدول الاسلامية وغير الاسلامية، كذلك العلوم والظواهر الطبيعية لها قواعدها ونواميسها العامة ومن الصعب تجزئة تلك القواعد بطريقة مفتعلة كما هو الحال في علوم الفلك والطب والهندسة وغيرها. ولهذا فقد ابدي بعض الخبراء الاقتصاديين امثال الدكتور انس بن فيصل الحجي وجهة نظر واضحة ومنطقية حول الازمة بقوله "إن الازمة سببها التدخل الحكومي بدفع البنوك لاقراض دون ضمانات كافية، ومن ثم فهي مرتبطة بالقدرة علي الدفع ولا علاقة لها فيما اذا كان العقد ربويا ام لا، وانه اذا توسعت البنوك الاسلامية في عمليات التمويل وبدأت بتمويل اصحاب الملاءات الضعيفة بدون ضمانات كافية فإنه قد يصيبها ما اصاب البنوك الربوية "مقال بجريدة الاقتصادية السعودية يوم 9 نوفمبر 2008 ص13"، ويضيف بأن اموال تلك الشركات لم تتبخر وانما ستعود مرة اخري متي ارتفعت اسعار الاصول لان القيمة الحقيقية موجودة وان الخسائر دفترية وحسابية، وهي تعبر عن انتقال الاموال من مالك لآخر، وانتقد الباحث مقولة ان العالم سوف يتبني النظام المالي الاسلامي، او ان الاقتصاد الاسلامي هو الحل موضحا ان هذه افكار وطروحات عامة ولا توجد آليات حقيقية للعمل بذلك، وان التمويل الاسلامي ليس الا جزءا بسيطا في اقتصاد الدول الاسلامية ناهيك عن الاقتصاد العالمي. وفي الختام نود ان نشير الي الحقائق التالية: 1 انه من السابق لأوانه تصور دور رئيسي لاقتصاد الدول الاسلامية يؤثر جوهريا علي توجهات النظام الاقتصادي العالمي، وانه من المبالغة في التفاؤل المبني علي الاماني القول بأن العالم يبحث التحول للنظام المالي الاسلامي والصيرفة الاسلامية بدلا من البنوك ومؤسسات التمويل التقليدية. 2 كما انه ليس من الواقعية، ولا الحكمة في التفكير والبحث العلمي، القول بأن النظام الرأسمالي في سبيله للانهيار لان ركائزه اقوي مما نتصور، ولكنه من المنطقي ان ادوات العمل في الاقتصاد الرأسمالي والنظام المالي الرأسمالي تتطور وتبتكر ادوات جديدة وسياسات جديدة تقتبس بعضها من النظم الاخري. 3 ان الفكر الرأسمالي لا يمثل عقيدة جامدة، وانما هو متطور والنظام الاقتصادي القائم اليوم يختلف عن ذلك الذي ساد في اوائل القرن العشرين او في القرن التاسع عشر، ولعل ذلك يفسر قوة وصلابة ومرونة النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يسيطر علي الاقتصاد العالمي، فأوروبا والولايات المتحدة فقط يسيطران علي اكثر من 50% من الاقتصاد العالمي. 4 ان دولا مثل الصين تتجه لخلطة اقتصادية تجمع بين الرأسمالية والاشتراكية، كذلك روسيا. 5 كما انه ينبغي ان نذكر ان الدول العشرين في قمة واشنطن التي تسيطر علي ما بين 85 90% من الاقتصاد العالمي ليس من بينها بما في ذلك الدول الاسلامية، من اعلن اخفاق نظام الاقتصاد الرأسمالي، او ان النظام المالي الاسلامي هو البديل، او ان اسباب الازمة الحالية هو الربا والبنوك الربوية، فالعالم يتحدث عن الضمانات للاقراض وضعف الملاءات المالية لبعض المقترضين، وهذا كله من الامور التي تحدث رغم مخاطرها في النظم الرأسمالية ويجري تصحيحها اما عبر آلية السوق او من خلال تدخل الحكومات في حالة ضخامة الازمة كما هو حادث في الازمة الراهنة وكما حدث في ازمة عام 1929. 6 لا مراء في ان كل مسلم يتمني ان يسود ما يسمي بالاقتصاد الاسلامي وان يعم الاسلام الكون بأسره، ولكن شتان بين الاماني وبين حقائق الواقع ومنطق التحليل العلمي الموضوعي بعقل متفتح وبصيرة ثاقبة. 7 ان الاقتصاد كغيره من العلوم ينبغي ان يترك للمتخصصين فيه مع تطعيم الممارسات في الدول الاسلامية ببعض الافكار الواردة في الشريعة شريطة تفسيرها التفسير العقلاني والمرن بما يتماشي مع ظروف العصر ومقتضياته، وهذا هو منهج الفقهاء الاوائل، الذين لم يفردوا كتبا باسم الاقتصاد او الصيرفة الاسلامية، وانما تناولوا هذه القضايا في اطار كتب الفقه، باعتبارها جزءا صغيرا، خاصة ما يتعلق بالقواعد العامة، واطلق معظمهم علي ذلك باب المعاملات والمواريث والخراج ونحو ذلك من التسميات المناسبة.