برغم كل ما تعرضت له مصر من ضغوط وانتقادات من دول ووسائل إعلام عربية وأجنبية إلا أنها خرجت من أزمة غزة من بين الفائزين، وتركت بصمتها علي مسيرة الأحداث من أولها إلي آخرها بدون أن ينجح أحد في تجاهلها أو التشويش علي دورها المحوري. أعرف أن كثيرين لن يتفقوا معي في ذلك، وسوف يرددون الاسطوانة المشروخة عن مصر التي فقدت دورها الإقليمي إلي نهاية هذا الموال المُكرر، إلا أن تفاصيل ما حدث في هذه الأزمة الخطيرة يدل _ وربما لأول مرة منذ فترة طويلة- علي أن مصر تتبني رؤية واستراتيجية واضحة، وأنها لم تخجل أو تتردد في أحرج اللحظات في إلقائها في وجه الجميع بصراحة وواقعية، آخذة في الاعتبار مصالح مصر القومية، وموقع غزة الجيوبوليتيكي بالنسبة لسيناء والطريق إلي الشرق. ولقد حدثت ترجمة لكل ذلك في لحظة جوهرية من لحظات الأزمة، عندما ألقي الرئيس مبارك بيانه المُهم والصريح في الأول من يناير 2009 عندما أكد في حزم، أن معبر رفح لن يفتح للمرور إلا بعد عودة السلطة الشرعية وممثليها إلي غزة، وفي وجود مُراقبين من الاتحاد الأوروبي طبقا لاتفاق 2005 واستمر النهج هكذا لم يتغير، خلال اجتماعات وزراء الخارجية العرب في الجامعة العربية، فوقفت مصر في وجه اجتماع للقمة كان مُتوقعا ألا يخرج بشئ إلا تسجيل نقاط ضد مصر، وبدون الخروج بحل عملي. إلي أن صدرت المُبادرة المصرية بالتنسيق مع فرنسا، وصدور قرار مجلس الأمن في فجر التاسع من يناير، الذي ثمن جهود مصر ورؤيتها وإدارتها للأزمة. قبل أن نغوص في تقييم أداء الجانب المصري من البداية حتي الآن، ربما يكون من المُفيد إلقاء نظرة علي عدد من التفاصيل المُهمة شكلت الموقف المصري خلال الأزمة الأخيرة. منها أن الرئيس مُبارك الذي صاحب الرئيس عرفات إلي الحدود المصرية وأدخله إلي غزة في إطار عملية أوسلو لم يكن يتوقع أن الأوضاع علي الحدود سوف تصل إلي ما هي عليه اليوم من تدهور تحت سيطرة حماس. ففي غزة والضفة الغربية وبدعم مصري سياسي واقتصادي لم يتوقف، بدأت عملية السلام الفلسطينية-الإسرائيلية والتي نتج عنها عودة ما يقرب من 200.000 فلسطيني جاءوا من الشتات إلي القطاع والضفة، وسُمح لهم بتكوين قوات للأمن الداخلي في حدود 50 ألف جندي مسلح، وأقيمت بنية تحتية في القطاع منها المطار والميناء، وبدأ التفكير في بناء ممر آمن بين الضفة والقطاع. لكن كل ذلك تعرض للخطر بسبب عمليات حماس ضد إسرائيل ورفضها التنسيق مع السلطة الوطنية، فأدي ذلك في النهاية إلي وصول نتانياهو إلي منصب رئيس الوزراء، وتعرضت العملية السلمية كلها إلي مسلسل من الانتفاضات التي أعادت عقارب الساعة في النهاية مرة ثانية إلي الوراء. والمشكلة بالنسبة لمصر قد بدأت، وأيضا بالنسبة للسلطة الفلسطينية ممثلة في الرئيس محمود عباس، مع وصول حماس إلي قمة السلطة التنفيذية من خلال انتخابات نزيهة، وما تبعها من سيطرة حماس علي غزة من خلال انقلاب عسكري تمكنت بعده حماس من السيطرة علي القطاع، ونظرت مصر إلي هذا التطور بوصفه تهديدا مباشرا لأمن مصر من زاوية تمدد تأثير حماس الأيديولوجي إلي سيناء، وقد ثبت ذلك من وجود بصمات لحماس في أكثر من عملية إرهابية في سيناء. ولقد حاولت مصر التوفيق بين حماس والسلطة الفلسطينية الشرعية ولم تنجح في ذلك، كما أن حماس لم تترك الفرصة لأحد للقيام بدور بناء من أجل الإفراج عن الجندي الإسرائيلي المُختطف في مقابل الإفراج عن أسري فلسطينيين. وربما كان من أكثر الأمور تهديدا لمصر اختراق حماس لحدود مصر من تحت الأرض بالأنفاق، كوسيلة لتهريب السلاح والمخدرات والبشر، بالإضافة إلي الاجتياح البشري من فوق سطح الأرض، كوسيلة لتصدير الفوضي والتوجهات السياسية والدينية المتطرفة إلي سيناء. وقد حاولت مصر جهدها للتخفيف عن الفلسطينيين في غزة، إلا أن سيطرة حماس عليها جعل القطاع بؤرة تهديد لها ولإسرائيل في نفس الوقت، وأصبح موضوع الأنفاق موضوعا دوليا تتكلم فيه الولاياتالمتحدة، ويناقشه الاتحاد الأوروبي، ولا تترك إسرائيل مناسبة بدون أن تثيره وموجهة اللوم إلي مصر. وربما من أهم نتائج الحرب الأخيرة في غزة أنها أنضجت علي نار ساخنة حالة استقطاب إقليمية، عربية وشرق أوسطية، بين فريق يطلق عليه "فريق المُعتدلين" وعلي رأسهم مصر والسعودية والأردن، وفريق يطلق عليه "فريق المُتشددين وعلي رأسهم إيران وسوريا وبعض الجماعات المسلحة مثل حزب الله وحماس والجهاد الذين يقودون حملة ضد الأنظمة العربية الرسمية، ويسوقون أفكارا مُتطرفة في الشارع العربي عن حروب الجماهير كبديل لحروب الأنظمة، الأمر الذي برز بشدة في حرب لبنان 2006، والتي لا تختلف كثيرا في بعض جوانبها عن حرب غزة 2008 وبشكل عام، كان لمصر وإلي الآن قدرة تأثير علي السياسات العربية معها أو ضدها، ولا تُوجد دولة في المنطقة إلا إسرائيل تُنافس مصر في هذه الخاصية بسبب أن مصر كانت دائما قادرة علي اتخاذ قرارات كُبري كما حدث في 1967، وعندما أطلقت أول حرب هجومية ضد إسرائيل بالمشاركة مع سوريا في 1973، ثم اتخاذ العرب جميعا _ ما عدا عمان والسودان _ قرارا بقطع العلاقات معها كرد فعل لتوقيعها معاهدة سلام مع إسرائيل في 1979 ومصر أيضا الدولة التي كان لوجودها ضمن التحالف الدولي ضد صدام حسين في 1990 تأثير مباشر في تحرير الكويت وعودة السيادة إليه. ولاشك أنها قامت بدور لا تتحدث عنه كثيرا في لبنان حيث علاقاتها مع كل الأطراف كانت متوازنة، وكذلك مع السودان حيث إسهامها الكبير والمتميز من خلال قواتها لحفظ السلام في دارفور. لقد مرت المنطقة العربية منذ انتهاء الحرب الباردة بامتحانات واختيارات صعبة كان آخرها الحرب التي جرت مؤخرا في غزة، ومن حُسن الحظ أن مصر اختارت ما يؤمن مصالحها وأمنها القومي بمعناه الواسع السياسي والاقتصادي والبشري في كل هذه الامتحانات. فهذا ما حدث في حرب 1973، وفي حرب الخليج 1991، وفي حرب العراق 2003، وفي حرب جنوب لبنان، وفي حرب غزة مؤخرا. وكان قرار مصر في معظم الأحوال مثار جدل حتي مع الدول الكبري مثل الولاياتالمتحدة، لكن مصداقيتها كانت دائما تُؤخذ في الاعتبار. وإذا كانت مصر قد نجحت في إدارة ما حدث في غزة بدون أن تنفجر المنطقة إلي حرب شاملة، فإن عليها الآن مسئولية منع حدوث نكسة قد تخصم من التطور الهش الذي تحقق حتي الآن. وهناك في الحقيقة ما يساعد علي أن ترسو المنطقة علي شاطئ آمن بعد أزمة غزة بسبب عدد من العوامل الإقليمية المستجدة الواجب تفعيلها والاستفادة منها. أولا انسحاب الولاياتالمتحدة من العراق، والحاجة إلي جُهد إقليمي وعربي في الأساس، لتدعيم العلاقات العراقية-العراقية وعودة العراق إلي مقعده في المنتديات والفعاليات الإقليمية، وهي مُهمة سوف تضيف إلي الإقليم آفاقا جديدة، خاصة مع وجود علاقات عراقية-أمريكية مُمتدة، قد تجعل من الولاياتالمتحدة أكثر حرصا علي استقرار الإقليم وتطوره. وثانيا، وبعد ما حدث في غزة ومن قبل في جنوب لبنان، وفي وجود إدارة أمريكية جديدة، من الممكن التطلع إلي تجديد حلم إطلاق عملية سياسية جديدة هدفها حل قضية الصراع العربي الإسرائيلي بكل جوانبها الفلسطيني والسوري، مع التركيز علي الطاقات الإقليمية والجغرافية المحيطة بهذا الصراع، وكيفية توظيف هذه الطاقات في بناء "حل" قوي متماسك يعطي تأثيرات أبعد من أطراف عناصره المباشرة. فإذا كانت إسرائيل جزءا من الحل فلا مناص من التطبيع الكامل معها وجعلها في نفس موضع الدول المُجاورة لها، بمعني أن تكون جزءا من الإقليم وليس جسدا غريبا عليه، كما أن علي إسرائيل أن تدفع في اتجاه مصالح جيرانها السياسية والبشرية والأمنية، من منظور إقليمي موحد ومن زاوية أن شعوب هذه المنطقة جميعا من أبناء إبراهيم.. لقد ظهر من الأزمة الحالية في غزة، وقبلها في جنوب لبنان، أهمية كل من إيران وتركيا لتكامل إقليم الشرق الأوسط وتمامه. لقد قامت تركيا خلال الأزمة الأخيرة بمسئولية رفيعة المستوي من خلال جهودها للوساطة بين سوريا وإسرائيل، والتي عكست صبرا وإصرارا علي تحقيق نتائج محددة من أجل استقرار المنطقة. وربما تنجح تركيا بالتنسيق مع مصر في الدعوة إلي حوار بناء بين دول الشرق الأوسط وإيران، فنحن أقرب من إيران مقارنة بالولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. وفي هذا الإطار يجب أن تكون معركة غزة الأخيرة من هذا النوع، وأن يسقط إلي الأبد عرش التطرف والحقد وعشق الموت، وأن يعلو مكانه عرش الحياة والرخاء والتعاون والأمن المشترك.