وقفت الأدبيات الجغرافية والجيوإستراتيجية العالمية طويلا أمام أهمية الموقع الجغرافي للدولة في التأثير علي وضعها ضمن سياقها الإقليمي ومنظومتها الدولية ومدي إسهامها في توجيه دفة سياستها بشقيها الخارجي والداخلي . وقد كان من أبرز وأسبق الإسهامات العالمية في هذا الصدد ، ما قدمه الجغرافي الألماني الشهير راتزل ( 1844 _ 1904 ) ،الذي كان أول من درس وعالج هذه الظاهرة من خلال إبراز أهمية أركانها وأبعادها كافة ،خصوصا الموقع والمساحة والحدود، معالجة منسقة ومقارنة بين الدول،مؤكدا علي وجود روابط قوية بين القوي القارية والقوي السياسية، حتي انه ذهب إلي الإدعاء بأن استغلال المساحات الكبيرة سيكون أهم ظاهرة سياسية في القرن العشرين،و أن تاريخ العالم ستتحكم فيه الدول الكبيرة المساحة كروسيا في أوراسيا والولاياتالمتحدة في أمريكا الشمالية. ومن بعد ذلك،جاءت نظرية عالم الجيو إستراتيجيا البريطاني الشهير هالفورد ماكيندر عن "قلب العالم" والذي كان صاحب السبق في التنبيه إلي أهمية تلك البقعة من العالم في محاضرة له بالجمعية الجغرافية الملكية البريطانية في يناير من عام 1904 واضعا إصبعه علي شرق أوروبا كنقطة الارتكاز الجغرافي العالمي ،التي أطلق عليها عام 1919 مسمي "قلب اليابس Heartland "في أوراسيا، أو "منطقة الإرتكاز" Pivot Area وتسني له من خلال نظريته المشهورة التأثير في الفكر الاستراتيجي في أوروبا وأمريكا خلال القرن العشرين وحتي الآن ،ومؤدي هذه النظرية أن من يسيطر علي شرق أوروبا يسيطر علي قلب اليابس ،ومن يسيطر علي قلب اليابس يسيطر علي جزيرة العالم ،ومن يسيطر علي جزيرة العالم يسيطر علي العالم أجمع (أسيا وأوروبا وأفريقيا) . وعلي المستوي العملي،سبق ماكيندر إلي إكتشاف أهمية قلب اليابس للسيطرة علي أوروبا والعالم قادة أوربيون بارزون من أمثال نابليون بونابرت ،و قيصر ألمانيا وليم الثاني وهتلر و موسوليني. وتبقي موسوعة المفكر المصري الخالد جمال حمدان عن "شخصية مصر" أبلغ وأهم إسهام عربي في حقل دراسات عبقرية المكان. وبدوره،حظي "الجوار الجغرافي " هو الآخر بنصيب ،لا بأس به ،من إهتمام الأدبيات الجيوإستراتيجية الدولية ،ولطالما شكل نعمة لبعض الدول كبريطانيا والولاياتالمتحدة ،اللتين وفر لهما موقعهما الجغرافي حماية طبيعية حالت دون تعرضهما للعدوان أو الغزو من الخارج لفترات طويلة ،بينما بقي نقمة ومصدر إزعاج لدول أخري خصوصا تلك المجاورة لدول ذات تطلعات توسعية مدعومة من قوي عالمية كبري مثلما هو الحال مع إسرائيل والدول العربية المجاورة لها،أو تلك الواقعة بين دولة كبري وأخري صغيرة ،حيث كان في الماضي بمثابة نقمة علي تلك الأخيرة،بسبب إضطرارها إلي ممالأة الدولة الأكبر أو الأقوي والإنصياع التام لها إلي حد التبعية تلافيا لبطش تلك الأخيرة وتجنبا لتداعيات إنسياقها وراء غطرسة القوة وخضوعها لنزعاتها التوسعية أو إجبارها الدولة الأضعف علي الدخول كطرف في حروب،لا ناقة لها فيها ولا جمل،ضد قوي أخري .كذلك،شاعت ظاهرة ما يعرف ب"الدول الحاجزة "،التي تنشئها القوي الدولية الكبري بين دول متجاورة متصارعة بغية تخفيف حدة الصراع ونزع فتيل التوتر بين تلك القوي المتصارعة ،والتي عرف التاريخ الحديث نماذج عديدة لها مثل إنشاء أفغانستان كدولة حاجزة بين المصالح الروسية في الشمال من قارة آسيا والنفوذ البريطاني في جنوبها . بيد أن الجوار الجغرافي قد شكل في مواضع شتي وأحيان كثيرة نعمة ونقمة لدول عالم ثالثية عديدة ،فبقدر ما زج ذلك الجوار بتلك الدول إلي أتون التبعية والأزمات المزمنة،أسهم ذلك الجوار في حل مشاكل عديدة لتلك الدول الصغيرة ربما كانت تعجز عن التعاطي معها بمفردها.ولعل التاريخ البشري يحفل بنماذج عديدة في هذا الخصوص .ففي المكسيك علي سبيل المثال ،والتي طالما عانت فيما مضي من تبعات جوارها الجغرافي للولايات المتحدة بسبب جبروت وبطش تلك الأخيرة وميولها التوسعية الفطرية ،التي لا تعرف الحدود ، فبعد أن إلتهم الأمريكيون أراضي لويزيانا الشاسعة في بداية القرن التاسع عشر، مضاعفين بذلك حجم دولتهم بأراض جديدة تتطلب عقودا من الزمن ليستوطنها الأمريكيون، لم يقنعوا أو يكتفوا بذلك وإنما هرعوا للبحث عن المزيد من الأراضي فيما وراء تلك الحدود الجديدة، وكأنهم "لم يعودوا يطيقون أية حدود سياسية أو جغرافية من حولهم"كما وصفهم الخبير الجيوإستراتيجي الأمريكي روبرت كاجان.وما إن إشتدت وطأة التدخل العسكري الأمريكي في الجنوب،الذي غدا فناء خلفيا للولايات المتحدة، بغرض تعزيز النفوذ وفرض الهيمنة والبحث عن الموارد الطبيعية ومصادر الطاقة من خلال ضم الأراضي الواقعة شمال ريو غراندي أي النهر الكبير الذي أصبح يفصلهم عن المكسيك،التي أضحت بدورها مقصدا للميول التوسعية الأمريكية عقب اكتشاف النفط في أراضيها أوائل القرن العشرين ،إضطر الرئيس المكسيكي في حينها بيرفيريو دياز Pirfirio Diaz ،إلي إطلاق مقولته المشهورة " مسكينة هي المكسيك لأنها بعيدة جداً عن الله وقريبة جداً من الولاياتالمتحدة". وبمرور الزمن وتغير المناخ الدولي،لم يحل ذلك الإرث التاريخي المثقل بالعداء بين الأمريكيين والمكسيكيين دون إنبثاق بعض المزايا لأولئك الأخر من رحم جوارهم الجغرافي مع الولاياتالمتحدة ،ففي العام 1995 علي سبيل المثال،وأثناء الأزمة الإقتصادية الطاحنة التي ألمت بالمكسيك والتي قارب إقتصادها خلالها علي الإنهيار التام ،لجأ مئات الآلاف من المكسيكيين إلي الهروب للولايات المتحدة علي نحو غير شرعي حتي إمتلأت الشواطيء الأمريكية الجنوبية بالقوارب التي تعج بالمهاجرين المكسيكيين غير الشرعيين،الذين يمثلون إزعاجا حقيقيا للأمريكيين ،الذين يعانون الأمرين بدورهم جراء تلك الهجرة . ولوقف هذا النزيف البشري المتدفق والزاحف إلي أراضيها حاملا في طياته تهديدات بزيادة معدلات الفقر والجريمة والتهميش في المجتمع الأمريكي،إضطرت الولاياتالمتحدة لضخ ترليونات الدولارات إلي المكسيك بغية إعادة الحياة لإقتصادها المتدهور والحيلولة دون تصدير أزمات ومشاكل الجار المكسيكي المثقل بالهموم إليها . وفي سياق مواز وبرغم المشاكل الإقتصادية والسياسية والأمنية الهائلة التي تثقل كاهل دول شرق أوربا ،التي كانت خاضعة للإتحاد السوفياتي السابق،علي خلفية جوارها الجغرافي له وبرغم تواضع جاهزية تلك الدول من كافة النواحي للإلتحاق بأي تنظيم دولي أو إقليمي مؤثر ،لم يدخر الحلف الأطلسي وسعا في الهرولة باتجاه ضم تلك الدول إلي صفوفه بغية الإستفادة من موقعها الجغرافي ضمن إستراتيجية واشنطن الرامية إلي تطويق روسيا جيوإستراتيجيا ،ومن جانبه لم يتورع الإتحاد الأوربي هو الآخر ،والمعروف بصرامة شروط ومعايير عضويته، عن قبول عضوية تلك الدول وتكبده مبالغ طائلة لإعادة تأهيلها إقتصاديا وإجتماعيا كيما ترقي إلي مستوي نظيراتها داخل الإتحاد،في الوقت الذي تتفنن المفوضية الأوربية في إختلاق المعوقات أمام إنضمام تركيا ذات الإقتصاد والأوضاع الإجتماعية والسياسية الأفضل كثيرا من تلك الدول ،لا لشيء سوي أن أكثر من 97% من مساحتها الجغرافية يقع ضمن قارة آسيا ،علاوة علي كونها دولة مسلمة يقطنها زهاء ثمانين مليون مسلم ويثقل تاريخها خبرات مؤلمة وذكريات مريرة مع الدول الأوربية. وعلي الصعيد العربي،تمكنت المغرب ،التي أسهم إقترابها الجغرافي الشديد من أوربا،التي لا يفصلها عن الشواطيء المغربية سوي 14 كيلومترا فقط ،من تحقيق إنجازات إقتصادية مهمة وإتخاذ خطوات ملفتة علي درب التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي . ففي محاولة منها لإنعاش الإقتصاد المغربي توخيا للحد من الهجرة غير الشرعية التي لا تتوقف من المغرب وعبره إلي الدول الأوربية،إضطر الأوربيون إلي إشراك المغرب في روزمة من الإتفاقات التجارية والمشاريع التنموية التشاركية مع الدول الأوربية ، تضمنت حزمة من الإجراءات لتأهيل العمالة المغربية حتي يمكن تقنين وجودها في أوربا،كما تعهد الإتحاد الأوربي مؤخرا بمنح المغرب "الوضع المتقدم" الذي يخول المغاربة التمتع بكافة مزايا العضوية في الإتحاد الأوربي ما عدا عضوية مؤسساته وهو الأمر الذي يبشر بمغانم سياسية وإقتصادية وأمنية شتي يمكن للمغرب إغتنامها مستقبلا،غير أن ذلك لم يمنع المغرب من التطلع المستمر صوب أوربا والتأسي بها وإستلهام تجربتها الديمقراطية والتنموية ،حتي أن المغاربة لم يكونوا يقارنون أوضاعهم بنظرائهم في العالم العربي وإنما بجيرانهم الأوربيين .واليوم ،صار لدي المغرب تجربة سياسية رائدة في مجال التعددية السياسية وإحترام حقوق الإنسان وتداول السلطة بشكل سلمي حقيقي بين مختلف القوي السياسية ،كما تم إستيعاب الإسلاميين في العملية السياسية ،وسجلت المغرب تقدما ملموسا في مجال إحترام حقوق الإنسان بعد أن تم تشكيل "جماعة العدل والإنصاف" لفتح ملفات التعذيب وإنتهاك حقوق الإنسان في عهود سابقة وتعويض المتضررين ومعاقبة من يثبت تورطهم تحت إشراف دولي من المنظمات الدولية الرسمية وغير الرسمية ذات الصلة. وعلي صعيد مغاير،يبدو الجوار الجغرافي في أحيان ومواضع أخري نقمة علي بعض الدول،لاسيما تلك التي تضاءل حظها وسط صراع الكبار،حيث يفضي الجوار السلبي لتلك الأخيرة مع بؤر التوتر والتأزم إلي عرقلة مسيرة التنمية وتجميد خطا الإصلاح فيها وجرها عقودا للوراء . فلقد بدت الدول العربية الملاصقة لإسرائيل والتي عرفت بكونها دول الطوق أو المواجهة معها كمصر والأردن وسوريا ولبنان بدرجة ما،تعاني إرتباكا إقتصاديا مزمنا فضلا عن تعثر ديمقراطي مستمر بالتزامن مع أزمات إجتماعية وعرقية جسيمة ،علي خلفية الجولات المتتالية من الصراع المسلح ضد إسرائيل،والتي إتخذت منها الأنظمة الحاكمة في تلك الدول ذرائع لتبرير إخفاقاتها علي الصعيد الإقتصادي وتمسكها المرضي والأبدي بالسلطة ،علي نحو يفوق مثيلاتها من الدول العربية الأخري،التي كانت أقل تورطا وتأثرا بالصراع مع إسرائيل كدول الخليج العربية أو تلك المغاربية . واليوم،تبدو الدول العربية أكثر تشككا وترددا في قبول الصيغ الأمريكية والأوربية المطروحة بشأن التعاون الإقليمي في المنطقة ،والتي تعد من وجهة النظر الإسرائيلية والغربية فرصة لتذويب الخلافات وفتح صفحة جديدة من التعايش والتعاون المشترك بين أطرافها المتصارعة توطئة لتحرير تجارب التنمية الشاملة بها من عثرتها ،فيما تراها الدول العربية محاولات أمريكية وإسرائيلية لتكبيدها كلفة الوجود الجغرافي لإسرائيل بين ظهرانيها مجددا من خلال إعادة هندسة المنطقة جيوإستراتيجيا بما يخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية ويمهد السبيل لتطبيع العلاقات بين إسرائيل ومحيطها العربي والإسلامي من دون أن تضطر تل أبيب لدفع ثمن ذلك التطبيع عبر إعادة الحقوق العربية المسلوبة. بشير عبد الفتاح