للوهلة الأولي، يثير فوز باراك أوباما والديمقراطيين الشعور بالرهبة التي تتزامن مع إدراكنا لرؤية إحدي اللحظات التاريخية التي تشهد تحولاً هائلاً. بيد أنه عند إمعان النظر يتضح حجم التغيير الحقيقي الذي سيطرأ علي النظام السياسي الأمريكي نتيجة لهذا الفوز. في الواقع، لم يحرز أوباما سوي تقدم ضئيل علي جون كيري منذ أربع سنوات في أوساط الناخبين البيض مما أدي إلي رفع إجمالي مستوي تأييد الديمقراطيين من 41% إلي 43% في خضم فترة كساد اقتصادي كبري. في المقابل، نجح جون ماكين في التفوق علي الهوامش التي حققها جورج دبليو بوش منذ أربع سنوات داخل 22% من المقاطعات علي مستوي الولاياتالمتحدة، وتقع معظمها في الجنوب. أما أوباما ففاز داخل بعض الولايات بفارق أصوات بالغ الضآلة. لكن الانتخابات الرئاسية التي شهدناها هذا العام جديرة بإلقاء نظرة ثالثة عليها. فرغم أن الفوز الانتخابي الذي حققه أوباما لم يكن قريباً علي الإطلاق من مستوي النصر الكاسح الذي أحرزه فرانكلين روزفلت عام 1932، فإن فارق الأصوات الذي حققه بين الفئات الانتخابية الحاسمة والمتزايدة أعدادها، يوضح أن هذه الانتخابات تمكنت بالفعل من إعادة تنظيم توجهات وميول الناخبين. والملاحظ أن أوباما حصل علي 66% من أصوات شريحة متنامية من الناخبين الأمريكيين، ألا وهي: ذوو الأصول اللاتينية. وترتفع هذه النسبة عن إجمالي عدد أصوات المناظرة التي حصل عليها كيري عام 2004 بمقدار 10%. أما ما يجعل أصوات الأمريكيين من أصول لاتينية علي قدر خاص من الأهمية فهو أنها تشكل عنصرا حيويا لإعادة تنظيم الميول والولاءات الانتخابية داخل منطقة ماونتن ويست، التي تعد واحدا من المعاقل الإقليمية الكبري الثلاثة (إلي جانب ولايات الجنوب ومنطقة السهول) لأنصار الحزب الجمهوري علي امتداد ربع القرن الأخير. وتشير الأرقام المتوافرة إلي أنه داخل كولورادو ونيفادا ونيومكسيكو، وهي 3 ولايات تمكن أوباما من تحويل ولائها من الحزب الجمهوري إلي الديمقراطي، حيث حصل علي 73% و76% و69% من الأصوات علي الترتيب من قبل الناخبين ذوي الأصول اللاتينية، والذين ارتفعت النسبة التي يمثلونها بين إجمالي جمهور الناخبين داخل هذه الولايات. وفي الواقع، فقد ارتفعت نسبة الأمريكيين من أصول لاتينية بين الناخبين بنسبة 9 نقاط عما كانت عليه عام 2004 داخل ولايتي نيومكسيكو وكولورادو، وبمقدار 5 نقاط في نيفادا. وكان من شأن هذا التنامي في أعداد الناخبين من أصول لاتينية مساعدة الديمقراطيين (وآل أودال) علي اقتناص مقعدين داخل مجلس الشيوخ في هذه الولايات و4 مقاعد بمجلس النواب. بيد أن تأثير أصوات الناخبين ذوي الأصول اللاتينية لم يقتصر علي ماونتن ويست، ففي فلوريدا، والتي عادة ما أبدي الناخبون من أصول لاتينية بها (الناخبون من أصل كوبي بصورة رئيسة) تفضيلهم للجمهوريين، منحت هذه الفئة من الناخبين 57% من أصواتها إلي أوباما الأمر الذي يرجع في جزء منه إلي أن الكوبيين لم يعودوا يشكلون النسبة الأكبر من أبناء الأصول اللاتينية في الولاية. بينما يتمثل سبب آخر في أن الأجيال الأصغر سناً من هؤلاء الكوبيين يصوتون لصالح الديمقراطيين. يذكر أنه عندما فاز رونالد ريجان بالرئاسة، تمركزت غالبية أصوات المجمع الانتخابي التي فاز بها داخل ولايات كاليفورنيا وفلوريدا وتكساس. ويوم الثلاثاء، نجح الديمقراطيون، مدعومين بصورة كبيرة بأصوات أبناء الأصول اللاتينية، سيطروا علي ولايتين من الثلاث، ويمكن لنا أن نتخيل أنه حتي تكساس حيث أيد 63% من ذوي الأصول اللاتينية فيها أوباما تميل نحو المعسكر الديمقراطي بعد عدة انتخابات قادمة. ويعد التنامي الكبير في أعداد الناخبين اللاتينيين مجرد عنصر واحد من تلك التي أسهمت في إعادة تنظيم الحزب الديمقراطي للولاءات الانتخابية، حيث أعرب جون جوديس وروي تيكسيرا في كتابهما "الأغلبية الديمقراطية الناشئة"، عن اعتقادهما بأن التحول السياسي الذي تشهده فئة المهنيين التي كانت واحدة من أكبر التكتلات الانتخابية المؤيدة للجمهوريين في حقبة أيزنهاور، وباتت اليوم من بين أكثر التكتلات تأييداً للديمقراطيين شكل عاملاً حاسماً في دفع البلاد باتجاه الحزب الديمقراطي، وكذلك الحال مع ميل الناخبات المستمر نحو تأييد الحزب. أما العنصر الأخير في عملية إعادة تنظيم الولاءات الانتخابية فتمثل في حدوث تحول في المشاعر العامة نحو الحراك الحكومي والذي يتركز جزء كبير من السبب وراءه في التداعي الاقتصادي الذي تتعرض له البلاد منذ فترة طويلة والانهيار الاقتصادي قصير الأمد الذي شهدته. وكشفت استطلاعات الرأي التي أجريت بين الناخبين لدي خروجهم من مراكز الاقتراع يوم الثلاثاء عن أن 51% من الأمريكيين يعتقدون أن الحكومة "ينبغي أن تبذل مزيدا من الجهد" عما عليه الحال الآن علي النقيض من رأي الأغلبية خلال حقبة ريجان والتي اعتقدت أن علي الحكومة تقليص جهودها. (يذكر أن اللاتينيين هم أكثر مجموعة ديموغرافية تأييداً لوجود حكومة نشطة). مما سبق يتضح أن الجمهوريين خرجوا من السباق الانتخابي الأخير في أسوأ حالة يتعرضون لها منذ عقود عدة، حيث مُنوا بخسائر فادحة فيما يتعلق بمقاعد مجلس النواب بشمال شرقي البلاد بخسارتهم العديد من المقاعد في نيويورك، علاوة علي مقعد بكل من بنسلفانيا وكونيكتيكت (وهو آخر مقعد لهم في نيو إنجلاند). وفي العام المقبل، سوف يسيطر الجمهوريون علي ثلاثة فقط من إجمالي 51 مقعداً بمجلس النواب في نيويورك ونيو إنجلاند بأكملهما. وباتت معاقل الجمهوريين تقتصر بشكل متنام علي مناطق السهول والولايات الواقعة بالجنوب وماونتن ويست، حيث تغلب المناطق الريفية. وفي الواقع، بعد 8 سنوات من إعلان كارل روف في واشنطن أنه سيخلق نسخة جديدة في القرن الحادي والعشرين لعملية إعادة توجيه الولاءات الانتخابية لصالح الجمهوريين التي حققها فوز ويليام مكينلي علي ويليام جيننجز بريان عام 1869، تبدو الأقلية الجمهورية الحالية مقتصرة علي المناطق القروية المنعزلة من الولاياتالمتحدة. ومن الواضح أن مستقبل الساحة السياسية الأمريكية ينتمي إلي الحزب الذي باستطاعته الفوز في الانتخابات بين جمهور من الناخبين يتميز بقدر أكبر من التنوع العرقي ومستوي تعليمي أفضل ويميل بدرجة أكبر إلي التمركز بالمناطق الحضرية، أي أن هذا المستقبل ينتمي إلي الحزب الديمقراطي الذي يمثله باراك أوباما.