يولي أوباما عناية خاصة بالتفاصيل ويخضعها لتمحيص دقيق ودراسة وافية، كما أنه لا يتردد في استشارة مجموعة متنوعة من الخبراء، ولا شك أن ذلك راجع إلي خلفيته كمحام وأستاذ لمادة القانون ماذا يعني انتخاب باراك أوباما بالنسبة لأمريكا والعالم؟ بالطبع لا نعرف علي وجه الدقة كيف سيتصرف أوباما عندما ينصب رسمياً رئيساً للولايات المتحدة في 21 من شهر يناير القادم، لكن وعلي مدي الحملة الانتخابية الطويلة والشاقة التي انتهت مؤخراً، أرسل الرئيس المنتخب مجموعة من الإشارات الدالة علي أسلوبه في الحكم والطريقة التي سيدير بها شؤون البلاد أثناء فترته الرئاسية، تلك الإشارات والدلالات استقاها الأمريكيون من سلسلة الخطابات واللقاءات التي أجراها أوباما طيلة المرحلة التي سبقت انتخابه رئيساً لأمريكا، فما الذي تفصح عنه تلك الإشارات؟ وما الذي تقوله للأمريكيين وللعالم؟ فيما يتعلق بقضايا السياسة الخارجية وما تثيره من جدل حاد في بعض الأحيان، لدينا مجموعة من الأفكار العامة حول طريقة تفكيره والمسار الذي قد يسلكه في المستقبل، حيث تعهد بسحب القوات الأمريكية من العراق في غضون 16 شهراً دون أن يخوض في التفاصيل ولا في الأسلوب الذي سيتبعه لتأمين انسحاب مشرف ومنظم لأمريكا. وهو من جهة أخري يريد الانخراط مع إيران دبلوماسياً، ويسعي إلي خفض حدة التوتر في العلاقات بين واشطن وطهران، لكنه في الوقت نفسه سيعمل جاهداً علي منع إيران من امتلاك السلاح النووي والحرص علي حماية مصالح الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط، والدفاع عن أصداقائنا في المنطقة. لكن ماذا عن الصراع العربي الإسرائيلي وكيف سيتعامل معه الرئيس أوباما؟ الحقيقة أن هذا الموضوع يكاد يبقي غامضاً، لأنه لم يثر للنقاش إلا لماماً وظل حبيس النفوس في أغلب الأوقات، وكل ما رشح عن أوباما فيما يتعلق بصراع الشرق الأوسط، كان الخطاب الذي ألقاه أمام اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للعلاقات العامة المعروفة اختصاراً باسم "إيباك" وعبر فيه عن دعمه القوي لإسرائيل علي غرار غريميه ماكين وهيلاري. وبالنظر إلي التقاليد الانتخابية في الولاياتالمتحدة، ليس غريباً أن يتنافس المرشحون علي إظهار دعمهم لإسرائيل خلال الحملات الانتخابية، لذا ربما كان من الأفضل ألا يثار موضوع الصراع العربي الإسرائيلي لأنه لم يحظَ باهتمام الأمريكيين وبالتالي لم يكن أوباما مضطراً إلي اتخاذ موقف معين، أو قطع التزام علي نفسه قد يكون علي حساب طرف من الأطراف. ومع أن الغموض في الموقف يتيح فرصة لأوباما لتبني سياسة أكثر توازناً في مقاربة الصراع مثل تلك التي انتهجها الرؤساء الذين سبقوا بوش مثل جيمي كارتر، إلا أننا لا يمكننا الجزم بصورة قاطعة ولا المراهنة علي سياسة معينة قبل أن تتضح الرؤية. وفيما عدا الصراع المزمن في الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل والذي يصعب التكهن بوجهة نظر واضحة للرئيس المنتخب أوباما بشأنه، تبقي القضايا الأخري في متناول التحليل والتخمين، بحيث يمكننا صياغة تصور عام عن أسلوب أوباما في مقاربة المشاكل والأحداث الدولية. فخلافاً للرئيس بوش يولي أوباما عناية خاصة بالتفاصيل ويخضعها لتمحيص دقيق ودراسة وافية، كما أنه لا يتردد في استشارة مجموعة متنوعة من الخبراء، ولا شك أن ذلك راجع إلي خلفيته كمحام وأستاذ لمادة القانون، كما أنه معروف أيضاً بإصغائه لجميع الأطراف واستنفاده لكافة الآراء قبل اتخاذ القرار. وكل من تحدث إلي أوباما أكد إجادته للاستماع وطرحه لأسئلة فاحصة تهدف إلي الاطلاع علي الموضوع، وليس التباهي بمعرفته وإظهار ذكائه، ومن المرجح ألا يكتفي أوباما باستشارة المقربين إليه والخبراء الأميركيين قبل اتخاذ القرار، بل أن تمتد دائرة مشاوراته لتشمل العديد من القادة الأجانب من أصدقاء أمريكا وحلفائها. وإذا كان بوش الابن قد اختط لنفسه طريقاً خاصاً مخالفاً حتي لبوش الأب في تضييق حلقة المستشارين وحصرها ضمن مجموعة صغيرة لا تشمل القادة الأجانب، فإن ما يتوقعه المراقبون من أوباما هو عكس ذلك تماماً، ناهيك عن أن الأمريكيين الذين تعبوا من سياسة الأقطاب التي قسمتهم حسب آرائهم ومواقفهم، ينظرون اليوم إلي أوباما باعتباره مؤهلاً أكثر من غيره لإعادة اللحمة إلي المجتمع الأمريكي وتوحيده حول القضايا الكبري المشتركة. والأهم من ذلك أنه خلافاً للرئيس الأمريكي الحالي، لا يتحرج أوباما من الاعتراف بالأخطاء، حيث حذّر في ليلة الانتخابات من أنه سيرتكب البعض منها... هذا الشعور المتواضع دليل علي أن أوباما قادر علي إدخال تعديلات تكتيكية علي مسيرته حسب الظروف وكلما تبين الخطأ. أما الإشارة الأخري التي نستشفها من خطابات أوباما وأسلوب إدارته للحملة الانتخابية، هي ما أظهره من هدوء ورباطة جأش رغم الضغوط الثقيلة للانتخابات، حيث تحمل مواعيد السفر المتقاربة وأدلي بأكثر من خطاب في اليوم الواحد، دون أن يفقد روح الدعابة، أو يخرج عن طوره. وقد رأينا كيف كان ينزعج منافسه جون ماكين وتظهر عليه علامات المزاج السيئ، فضلاً عن تصنعه لشخصيات متعددة إرضاء للناخبين، وهو نفس ما أبانت عنه هيلاري كلينتون التي كثيراً ما تغير مزاجها تماشياً مع ظروف اللحظة ومتطلباتها ليبقي أوباما الوحيد بينهما الذي حافظ علي تماسكه وهدوء أعصابه. ولا ننسي أيضاً أن أوباما يعتمد أسلوباً براجماتياً في البحث عن الحلول من خلال إيجاد أرضية مشتركة مع الخصوم وإشراكهم في التفكير، إذ كثيراً ما شدد علي أهمية العمل المشترك بين الأمريكية لحل المشاكل والتغلب علي الاختلافات. وبالطبع لن يقف هذا النهج الباحث عن أرضية مشتركة علي الداخل، بل سيمتد إلي الخارج لينعكس علي الدبلوماسية الأمريكية في ترميم العلاقات مع الأصدقاء والحلفاء بعدما تضررت خلال فترة الرئيس بوش وسياسته الأحادية. وقد سبق أن أوضح أوباما أنه سيعتمد أكثر علي الدبلوماسية لحل المشاكل الدولية، وأنه لن يلجأ إلي القوة إلا كملاذ أخير، وهو ما يعني استعداده للتفاوض مع خصوم أمريكا وتقليص التوتر مع إيران وسوريا، دون أن يؤدي ذلك إلي التفريط في مصالح أمريكا أو إهمال الدفاع عن أصدقائها. وأخيراً هناك جانب علي قدر كبير من الأهمية يستلهمه أوباما من خلفيته العرقية المتنوعة وتجربته الحياتية الغنية، يجعله أكثر استعداداً للتعاطف مع الأجانب وتفهم انشغالاتهم، فقد أمضي أوباما فترة من طفولته في إندونيسيا، ليكون بذلك الأقدر علي التعاطي مع الآخرين بسبب إدراكه أنه رغم الاختلافات السطحية علي مستوي العرق واللون، يشترك البشر في خصائص إنسانية واحدة.