الحركة السياسية المصرية والدبلوماسية المصرية يمكنها أن تتحرك علي مسارين: الأول أن تعمل علي تجميد قرار المحكمة الدولية من الناحية العملية، لست خبيرا في شئون السودان، ولكني معرفتي غير قليلة بشئون العلاقات الدولية، وأظن أن توجيه المحكمة الجنائية الدولية قرارا باتهام الرئيس السوداني عمر البشير بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية في دارفور سوف يبدأ سلسلة من التداعيات القاسية بالنسبة للسودان، وبالتالي فإنها سوف تضع أمام مصر خيارات صعبة أحلاها مر وعلقم. والمسألة ببساطة هي أن ما يجري في السودان الآن، وما سيجري في المستقبل القريب هو ترجمة عملية في حياة الشعوب لدفع ديون متأخرة. وبوسع الأفراد والمجتمعات أن تقترض الكثير من صبر التاريخ والعالم والبنوك، ولكن دائما يأتي وقت الحساب حيث يكون الأمر كما هو معروف الدفع أو الحبس، وبالنسبة للمجتمعات الدفع أو الكارثة. وفي وقت من الأوقات كانت كل الحسابات السودانية مفتوحة عندما قرر السودان القبول في عهد الرئيس جعفر النميري بتطبيق الشريعة الإسلامية، فتجددت الحرب الأهلية ومعها جاء الانقلاب العسكري محمولا علي كتف جماعة الإخوان المسلمين بقيادة الدكتور حسن الترابي الذي قرر شن حرب صليبية علي الجنوب من ناحية، وجعل السودان مركزا للثورة الإسلامية العالمية من جانب آخر. وباختصار كان السودان يسحب من حساباته العالمية حتي جاء وقت سداد الديون التي نشاهدها الآن ؟! كل هذه المقدمة الطويلة تخص كارثة كبري مقبلة وحتي الآن فإنه لا يوجد من هو علي استعداد في مصر والعالم العربي للتعرف علي أبعادها. فكما هي العادة في مثل هذه التطورات فإن القائد العربي الذي وصل إلي حافة الكارثة تأخذه العزة بالإثم ويدخل في دور التحدي، وبعد كارثة حرب تحرير الكويت خرج صدام حسين راقصا مع محبيه شاهرا سيفه ومطلقا بندقيته في احتفالات عامة، وفي اليوم قبل الأخير قبل سقوط بغداد بعد الغزو الأمريكي خرج صدام علي الشعب معلنا عن انتصار قريب؛ وكان ذلك تحديدا هو ما فعله الرئيس عمر البشير عندما خرج يرقص هو الآخر وسط جماعات مؤيدة وتتملكها حالة غير عادية من الفرحة ! ولم يكن ذلك هو رد الفعل الوحيد، فقد بدأت المقالات في الصحف العربية، والمواقف في المؤسسات العربية تلوم المحكمة الجنائية الدولية لأنها اتخذت قرار الاتهام واعتبار القرار سياسيا لخدمة قوي دولية يزعجها كثيرا حالة النمو الهائلة في القوة السودانية؛ وكما هي العادة بدأت الاتهامات المعروفة بالمعايير المزدوجة، وعما إذا كان ضروريا محاكمة الرئيس السوداني بينما لا يحاكم أحد في إسرائيل أو في الولاياتالمتحدة من بين المسئولين عن أحداث معتقل أبوغريب أو جوانتانامو. ولكن وسط كل هذا الضجيج فإن القضية الأصلية سوف يتم تجاهلها وهي ما حدث في دارفور وعما إذا كان قد جري حقا جرائم حرب وقتل جماعي لمواطنين سودانيين مسلمين حيث ينبغي أن يكون ذلك هو القضية الأصلية التي تهمنا وليس ازدواج المعايير في العلاقات الدولية. ولكن أيا ما كان الصخب حول القرار الدولي، ومهما كانت الرقصات التي قام أو سيقوم بها الرئيس عمر البشير فإن تأثيراته سوف تكون طويلة المدي لأن المحكمة الدولية لن تتراجع عن قرارها، والأمم المتحدة لن تتباعد عن موقفها، وخلال الفترة المقبلة سوف تبدأ سلسلة من القرارات الدولية التي سوف يتخذها مجلس الأمن ضد السودان وضد السيد عمر البشير وضد أعوانه حيث سيستحيل عليهم، كما جري مع الرئيس اليوغوسلافي ميلوسوفيتش الحركة خارج السودان. معني ذلك أن السودان سوف يواجه اختيارات مرة، واحدة منها أن يبقي الرئيس السوداني متحديا داخل السودان لعدد من السنوات سوف تدفع فيها الدولة ثمنا فادحا من الضغوط الاقتصادية والسياسية ربما تكون القشة التي تقصم ظهر البعير فتبدأ عملية تفتيت السودان الذي لن تجد أجزاؤه المختلفة إغراء واحدا للبقاء في دولة محاصرة. والثانية أن يقبل الرئيس البشير اتهام المحكمة ويمثل أمامها ويترك السلطة وذلك سوف يخلق فراغا مفاجئا قد يؤدي إلي سلسلة من الحروب الأهلية التي تجعل حالة الصومال نزهة عسكرية. والثالثة أن يتم انتقال السلطة بطريقة منظمة ليس من خلال حكومة الخرطوم الحالية المتمرسة في مناورات السلطة وإبقاء الأمور علي ما هي عليه حتي وهي تبدو متغيرة وإنما من خلال مجلس يضم قادة الأقاليم المختلفة بحيث تقرر مستقبل السلطة والسودان معا خلال المرحلة المقبلة. مثل هذا المجلس يستطيع أن يعقد صفقة شاملة مع مجلس الأمن تزيح البشير من السلطة وتسوي قضية اتهامه مع المحكمة الدولية في نفس الوقت. مثل هذا الحل الأخير للأسف لن يرضي أحدا، ومن المرجح أن أحدا لن يقبله، فلا البشير سوف يكون لديه استعداد لترك السلطة، ولا خصومه سوف يتركون الفرصة تفلت من بين أيديهم دون انتزاع مكاسب كبري، والعالم العربي سوف يجد فرصة جديدة للرقص حول كارثة إضافية. ولا توجد سوابق كثيرة في العالم العربي للبعد عن الهاوية بعد الاقتراب منها، وكل ما كان ممكنا في العادة هو تأجيل المشكلة حتي تنفجر في وجه الجميع بعد ذلك، كما تعايش العالم العربي مع انقلاب حماس في غزة وبات ينتظر كل يوم متي سوف يحدث الاجتياح الإسرائيلي، وما فعله حزب الله في بيروت الذي حصل بمقتضاه علي مزايا سياسية وعسكرية لا يعرف أحد متي سوف يستغلها أو ربما ينتظر الجميع أن يجري استغلالها في إطار كارثة أكبر هي الحرب الإسرائيلية الإيرانية القادمة. معني ذلك أن مصر باتت تواجه تحديا ضخما، فمصالح مصر الإستراتيجية والسياسية والإنسانية كبيرة في هذا البلد الشقيق. وربما كان أول التحديات هي عمليات النزوح الضخمة التي سوف تترتب علي الكوارث المقبلة وهو تحد تعودنا التعامل معه عندما أتي من السودان أهل الشمال وأهل الجنوب معا. ولكن المشكلة الكبري هذه المرة هي أن المرجح هو وصول حدود الصراع العسكري إلي قرب الحدود المصرية وحينما يوجد السلاح توجد دائما عناصر كثيرة علي استعداد للاستفادة من وجوده سواء في السودان أو في داخل مصر ذاتها، وتلك سوف تكون مشكلة أمنية مصيرية. وبالإضافة إلي ذلك سوف تكون هناك مجموعة من التحديات الاقتصادية والسياسية، ولكن أكثرها صعوبة هو كيفية التعامل مع القرارات الدولية التي تخص السودان. وعندما كان الأمر يخصنا حيث اعترضنا علي العقوبات الدولية المفروضة علي السودان بعد محاولة اغتيال الرئيس مبارك عام 1995 ، وكان ذلك حكمة، وكظما للغيظ، وتفضيلا لمصالح الشعبين المصري والسوداني علي نزعات الانتقام، ولكن المشكلة هذه المرة لا تخص مصر، وإنما تخص المجتمع الدولي، كما تخص أهل دارفور، ولا يبدو أن أحدا في الطرفين سوف يكون مستعدا للعفو. وأظن أن الحركة السياسية المصرية والدبلوماسية المصرية يمكنها أن تتحرك علي مسارين: الأول أن تعمل علي تجميد قرار المحكمة الدولية من الناحية العملية، فكما حدث بالنسبة للمحاكمة الخاصة بمن قتل رئيس الوزراء رفيق الحريري فإن المسألة، كما يبدو، قد دخلت الثلاجة الدولية. والثاني أن تساعد ما أمكنها الأشقاء السودانيين في تحقيق انتقال سلمي للسلطة يحافظ علي تواجد الحكومة المركزية وعملية السلام مع الجنوب، وربما احتضان أهل دارفور والتخفيف من معاناتهم. القضية بالتأكيد معقدة، ولكن من قال إن الأمور في العالم العربي كانت أبدا سهلة ؟!.