إن العامل الأكثر حسما بالنسبة للديمقراطية من مسألة التنظيم الداخلي هو العلاقة بين دين معين ودين الدولة، فكلما كانت العلاقة بينهما أوثق، قل احتمال معاملة أولئك الذين ينتمون إلي دين آخر ليس كمواطنين علي قدم المساواة أو السماح بالتعبير العام الكامل عن هذا الدين المغاير، وفي الحالات القصوي، حيث تنظر السلطات الدينية إلي الدولة علي أنها الهيئة المقدسة المنوط بها الوفاء بمهمة دينية علي الأرض، يمكن ببساطة أن تأخذ السياسة طابع حملة عسكرية دينية يجري فيها إجبار معتنقي الديانات الأخري علي الدخول في الصف واضطهادهم أو علي أقل تقدير التمييز بينهم وبذلك تختنق فيها كل حرية للتعبير... ومن التجربة التاريخية الأليمة لحملات القمع هذه والحروب الأهلية وأعمال العنف الطائفية والتي ولدتها، انبثقت فكرة التسامح الديني، فحتي إذا كنا نعتقد أن ديننا هو الحقيقة الوحيدة التي لا معقب عليها، فإن تكلفة إجبار الآخرين علي قبوله هي ببساطة فادحة إنسانياً، بما لا يمكن معه احتمالها في عالم يتميز بتعدد الديانات واختلافها .... والتسامح لا يعني التخلي عن معتقداتنا الخاصة، وإنما هو يعني منح الناس الكرامة الإنسانية الأساسية بتركهم يقررون لأنفسهم حتي إذا كان ذلك يقودهم إلي اتخاذ قرارات خاطئة ... ويتسم النص الدستوري المصري الذي يقول في مادته (46) التالي .."تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية بالعبقرية" .. فأتصور أن المشرع عندما صاغ مصطلح حرية العقيدة كان يقصد المعتقد وليس الدين السماوي والدليل أنه في الفقرة التالية يقول ..."وحرية ممارسة الشعائر الدينية" .. إذن هناك فرق بين الدين والعقيدة، وهذا ما فطن إليه الفقيه القانوني رجائي عطية عندما قال في حوار نشرته نهضة مصر في 1/4/2008 بسؤاله عن الحكم الصادر بشأن خانة الديانة في البطاقة الشخصية ما يلي نصا ..: "لو بيدي الأمر في الداخلية والأحوال المدنية لبدلت خانة الديانة ووضعت بدلا منها "المعتقد" وهذه تنطبق علي جميع الديانات المعترف بها وغير المعترف بها، وبهذا نحلق فوق النص ... وهذا في نظري هو الحل بدلا من حالة اللغط التي تحدث" ... وأضاف عندما سئل بأن هذا قد يفتح باباً للتميز والتصادم مع مبدأ المواطنة؟.. "أن هناك فرق بين التفضيل والتمييز والوصف .. والبطاقة قد تتصدي لبيان النوع وليس هذا تمييزا، وبالتالي لا نستطيع أن ننكر أن هناك مسيحيا ومسلما ودرزيا وكنفوشيا، وهناك أديان سماوية وأديان وضعية، والحل لكل هذا اللغط هو لفظ المعتقد، وفيها أذكر مسيحي _ مسلم _ بهائي _ غير ذلك دون الاصطدام مع النص" ... وهنا في هذا التحليل العميق (المرحلي)، نلاحظ أنه في حالات عدم القدرة _ مرحليا في تغيير النصوص الدستورية _ وانطلاقا من مبدأ سيادة القانون والحماية الدستورية يمكن المواءمة بين النص الدستوري رقم (46) الذي أتصور أنه عبقري في صياغته، (وبين نص المادة الثانية الذي يقول.. "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع) _ حتي يتم تعديله - والذي يتوافق أيضا مع نص المادة 40 الذي يقول نصاً .. "المواطنون لدي القانون سواء وهو متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة" .. ونلاحظ هنا أن المشرع قال الدين أو العقيدة وهو ما يفسر ما ذهبنا إليه أنه عندما قال في مادته (46) .. "تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية" ... كان يعني فرقاً بين الدين والعقيدة .. فلماذا قال حرية العقيدة، ثم أتبعها بحرية ممارسة الشعائر الدينية؟. ولنأتي للدكتور سليم العوا - الذي أتصور أنه كفقيه قانون _ قد صدم القوي المدنية، فهو يقول وبمنتهي اليقينية .. "إن إلغاء خانة الديانة من البطاقة يعني إلغاء الدين، ففي نص الحوار الذي نشرته "نهضة مصر" علي ثلاث حلقات قال ... "إن خانة الديانة تم إلغاؤها في الدول التي ألغت الدين من حياتها، لأن المجتمع لم يقل فيه أحد أنه ألغي الدين" ... ورغم أنه من الممكن بداية اتخاذ تدابير أقل راديكالية من إلغاء خانة الديانة، كما طرح رجائي عطية واستبدالها بالمعتقد وهو أقرب الحلول الوسط، إلا أن ما صرح به الدكتور العوا يتسم بالصدمة، لأنه اختزل الدين في خانة الديانة، فهل إذا تم إلغاؤها يتم إلغاء الدين، اعتقد أنه تبسيط واختزال أقل ما يقال أنه مخل بالسياق الموضوعي، ثم نراه هو نفسه في نفس الجواب يقول .. "وإذا كان المجتمع المصري ألغي الدين من حياته فليكن ... رغم أن الغرب الذي يقول أنه ألغي الدين مازال الدولار يحمل عبارة نثق في الله حتي الآن وما قام به بوش ضد العراق وأفغانستان أطلق عليه حربا صليبية" ... إذن فلا علاقة علي الإطلاق _ طبقا لمقدماته هو _ بين خانة الديانة والدين، وبين إلغائها وإلغاء الدين، وبين بقائها وبقاء الدين ... وخلاصة إن البيئة الأكثر فعالية التي يمكن فيها ضمان التسامح وتقبل تنوع الدين أو المعتقد، هي تلك التي لا يعطي فيها أي دين وضعا مميزا داخل الدولة، فمثل هذه الدولة يمكن أن تعمل علي دعم الأديان المختلفة بطريقة عادلة ... بل إن التسامح يمكن أن يظل قائما في دولة تتبع دينا معينا في مسائل مثل شعائر الدولة حيث يكون هذا الدين هو دين السواد الأعظم من الناس، يبدو أنه إذا ما سعت الدولة إلي فرض تعاليم دين الاغلبية علي غير المؤمنين به، فإنها ستنساق حتما إلي إلغاء الحريات الديمقراطية الأساسية في التعبير وغير ذلك، بمن فيهم المنتمون أنفسهم إلي دين الأغلبية ذاته ... ومن الصعب المجادلة فيما خلص إليه الباحثون من أنه بدون قدر من تقاسم الناس في دولة أو إقليم معين هوية سياسية مشتركة، يصعب دعم المؤسسات الحرة، وقد تكون هذه الهوية مستمدة من تجارب تاريخية مشتركة تتسامي علي الاختلافات في الدين أو العرق أو اللغة أو أي شيء آخر ... وقد تعززها أيضا مؤسسات سياسية يعترف بمعاملتها جميع الفئات معاملة منصفة وتلقي قبولا حرا من جميع الفئات ... والملاحظ والمؤكد أنه لا شيء يشعل العداء الطائفي بشكل مؤكد أكثر من أن يجر الاستبعاد وفي أذياله المعاناة من التمييز أو الغيبة أو القمع لطائفة أو لأخري، أو الخوف من أن يحدث ذلك .... وأخيرا فإنه لما كان الامتزاج بين أقوام وأجناس وعقائد مختلفة هو القاعدة السائدة في المجتمعات المدنية والحداثية المعاصرة فإن كل ذلك يتطلب ترتيبات دستورية تستهدف حماية الأقليات من التمييز أو الظلم الذي قد يجري بشكل منهجي ...