كان يمكن أن نفاخر الأمم جميعا بهذه المجموعة الرائعة من حقوق الإنسان المنبثة في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، علي الجانب الآخر، نداري أوجهنا خجلا لأن واقع حقوقنا يكاد أن يكون في الدرك الأسفل بين كثير من الأمم!. الموضوع الأساسي لمهمة التربية ومهنة التعليم هو الإنسان: تنشئته وتنميته بكل ما هو بحاجة إليه من تفعيل لما يملك من قدرات واستعدادات وإكسابه أقصي وأفضل ما يمكن من مهارات ومعارف ومعلومات واتجاهات وقيم، من أجل تمكينه من التفاعل الجيد مع عناصر الحياة من حوله، بما فيها من بشر ومكونات طبيعية من كائنات حية وغير حية. ذلك أمر قد لا يختلف عليه أحد أيا كانت اتجاهاته ومراميه... وفي اعتقادي أننا لا نستطيع أن نجد أروع وأدق وأعمق تكريم للإنسان من هذه الآية القرآنية الكريمة التي يقول فيها المولي سبحانه وتعالي: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلا) سورة الإسراء/70. وتحمل عدة آيات قرآنية هذه القاعدة الأساسية لكل حقوق الإنسان، ألا وهي المساواة، والمساواة هي تنبت من وحدة الأصل، ومن هنا يقول سبحانه وتعالي: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) النساء/1، ويقول أيضا: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع) سورة الأنعام/98. ووحدة النشأة تنفي أن يكون معيار التفاضل بين الناس عرق أو موقع اجتماعي أو اقتصادي أو نفوذ إداري، أو ما شابه هذا وذاك، وإنما هو ما يكسبه الإنسان من عمل، يجعله أقرب ما يكون إلي الله، وبما أن الله غني عن العالمين، فإن ما يقرب الإنسان إلي الله، هو حسن خلقه، وعلاقاته التي تتسم بالود والتسامح، ومن هنا تجئ تلك القيمة الإسلامية العظيمة (لا فضل لعربي علي أعجمي.. إن أكرمكم عند الله أتقاكم)! ونصت آيات القرآن الكريم علي قاعدة المحاسبة بناء علي مقدار ونوع العمل فقال سبحانه وتعالي: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) سورة الزلزلة/6، 7. وجعل المسئولية متعلقة بفاعل العمل نفسه، فأكد علي أنه (من اهتدي فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخري) سورة الإسراء/15، وكذلك (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك، كفي بنفسك اليوم عليك حسيبا) سورة الإسراء/13، 14. ولما كان الإنسان يشترك مع الكون في وحدة تركيب مادي، فإنه يكون مهيأ لأن يتفاعل تفاعل انتفاع، إذ التجانس شرط في هذا التفاعل، ولما كان الإنسان أرفع من الكون شأنا وأعلي قيمة، فإنه سيكون هو المنتفع منه وسيكون الكون كله مسخر للإنسان مذلل له في سبيل استثماره، ومستويات متعددة، ومن هنا يجئ قوله سبحانه وتعالي: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) سورة البقرة/29، وقال كذلك مؤكدا هذه الحقيقة (الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه....) سورة إبراهيم/ 32 34. وهنا نجد أنفسنا أمام مفارقة بالغة الغرابة حقا. فمشهور لدينا أن تكون هناك هوة بين "المثال" و"الواقع" ومع ذلك لا نترك أنفسنا لليأس حقا، فنسعي إلي تحريك الواقع، ونحن نكاد نعلم سلفا بأننا لن نحقق "المثال"، ولكن ميزة الإيمان بالمثل والثقة به أنه يمثل مقصدا ومهمازا يحثنا علي التحرك نحوه. لكننا نشعر بكثير من الأسي عندما نري أخدودا حادا بين "فكر" و"ممارسة"، وخاصة في المواثيق الرسمية، وكتابات المفكرين والعلماء، ونخشي ساعتها أن يكون الفكر البراق، مجرد "مخدر" يوحي للناس بأنه صورة نظرية للواقع، الذي إن لم يكن متحققا فهو علي وشك التحقق. نقول هذا بيانا لتلك المفارقة التي نشير إليها. فإذا كان يمكن أن نفاخر الأمم جميعا بهذه المجموعة الرائعة من حقوق الإنسان المنبثة في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، علي الجانب الآخر، نداري أوجهنا خجلا لأن واقع حقوقنا يكاد أن يكون في الدرك الأسفل بين كثير من الأمم!. إن هذا أمر جد خطير علي النفس حقا، ذلك أن اتساع اللهوة، يمكن أن يؤدي إلي فقدان الثقة بالتوجه والمثال والفكر، وفي الوقت نفسه، تعود تهرؤ الواقع وتدنيه، إلي درجة قد تدفع البعض إلي تصور أن هذا مما لا يمكن تجاوزه، وأنه من ولو شئت أن أسوق لك أمثلة من وقائع الحياة العربية تكشف عن هدر مخيف لحقوق الإنسان لدي الجمهرة الكبري، وتمتع بما يزيد عن هذه الحقوق لدي قلة تستأثر بالسلطة والنفوذ في مجالات السياسة، والاقتصاد، والإدارة، ثم مقارنتها بأمثلة عكسية مما يقع في بلدان يسميها البعض من أبناء المسلمين للأسف بأنها "بلاد الكفر"، وكيف يشعر المواطن فيها بأنه يقف علي قدم المساواة مع الجميع: من أصغر المواطنين شأنا إلي أعلاهم موقعا.. أقول، لو شنت هذا لاحتاج الأمر منا إلي صفحات طويلة لا يتحملها الظرف ولا يطيقها المكان!. ومن هنا فما الذي نحتاجه أكثر: تعليم حقوق الإنسان، أم توفيرها، وممارستها؟. أتوقع القول بأن "المعرفة" أمر أساسي حتي نعرف ما لنا وما علينا، لنفهم ما يحدث سواء من حيث توافر هذا الحق أو ذاك، وبأي قدر؟ وفي أي ظروف؟ أم العكس؟ وأنا لا استطيع انكار هذا، لكنني في الوقت نفسه لا استطيع أن أتجاهل ما يحدث في المجتمعات المقهورة في عصرنا الحالي من سيطرة مخيفة للسلطة القاهرة علي أجهزة الرأي والتشريع بحيث تهيئ لكثير من الذهان ما يزيف الحقائق ويلونها ويوجهها في الاتجاه غير المستقيم، فيختلط الأمر علي كثير من الناس حتي ليتصور الحق باطلا، ويحرص علي اجتنابه، والباطل حقا، فيحرص علي فعله، وتضييع حقوق ينبغي ألا تضييع، وتمارس حقوقا من قبل من لا يستحقون!. هل يعني هذا دعوة إلي التقليل من أهمية تعليم حقوق الإنسان؟ كلا، ويستحيل أن يجرؤ أحد علي القول بهذا، كل ما نؤكد عليه أن تعليمها وحده لا يمكن أن يكون كافيا، ولابد من توافر هذه الحقوق في أرض الواقع المجتمعي، وتتوافر ممارستها.. ألسنا نؤكد في عالم التربية علي أهمية التعليم بالخبرة؟! فإذا وجد تلميذ نفسه في مدرسة تطبق فيها الحقوق والواجبات وفق المصلحة الكلية الوطنية والشرعية، فسوف يتعلم هذه الحقوق بدرجة أعلي، وأعمق مما لو تعلمها من خلال دروس وكتب، ثم نظر حوله فإذا بها تنتهك في كثير من المواقع، وإلا وقعنا في ما يشبه المثال الشهير لهذا الذي يحدث الناس عن أضرار التدخين، وهو يمسك سيجارة يدخنها؟ ومن هنا قالوا: لا تنه عن خلق وتأتي مثله، بل ومن قبل قال المولي عز وجل: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)!. ومنذ سنوات غير قليلة، ربما في العشرينيات من القرن العشرين، عرف التعليم في مصر تعليم مقرر باسم (التربية الوطنية)، والذي كان يراد به ما يتم تعليمه في دول غربية باسم (التعليم المدني)، وكان يتم لدينا جنبا إلي جنب مع التربية الدينية. كان هذا المقرر أقرب ما يكون إلي مجال حقوق الإنسان، حيث كان يحرص علي تعريف الطلاب بالمنظمات الدولية، ووظيفة كل منها، والشكل العام للنظام السياسي القائم علي المستوي الوطني، ثم علي مستوي الإقليم، ثم علي المستوي المحلي الصغير، وأبرز حقوق المواطن، وأهم واجباته. لكن ما تم من تطوير لهذا المقرر في عهد ثورة يوليو، وخاصة في الستينيات، جعله أقرب إلي أن يكون "تلقينا" وتعبئة للطلاب لمؤازرة الثورة، تحت دعوي أن الثورة نفسها هي التي تمثل المصلحة الوطنية والمصلحة القومية، فتحولت الدروس إلي ما يقرب إلي "الدعاية" السياسية التي نجدها في أجهزة الإعلام والرأي في النظم الشمولية. ولابد للإنسان أن يتساءل عن هذا الزخم الملاحظ حول الحديث عن حقوق الإنسان؟ هل هو أمر تم اكتشافه في العصر الحديث حقا؟ بطبيعة الحال لابد أن نعترف أن مزيدا من التقدم والخطر علي طريق النهوض الحضاري، أكد للجميع أن أحد أهم مقومات النهوض الحضاري هو الإنسان نفسه، فهو المنتج للحضارة وهو المستهلك لها، في الوقت نفسه، مما يحتم مزيدا من الاهتمام به وتوفير فرص النمو له عقليا وفكريا وصحيا.. إلي غير هذا، وذاك من مجالات النمو والتطور. لكن، وبغير وقوع في أسر ما يسمي "بنظرية المؤامرة"، فإننا لا نبرئ القوي الكبري من حيث هذا الإلحاح الغريب لها علي حقوق الإنسان في الوطن العربي. ذلك أن هذه القوي المهيمنة نفسها هي أحد أبرز العلل الكامنة وراء تهرؤ الوضع العربي، بحيث لا تتوافر البنية الأساسية للحياة الكريمة للإنسان في هذا الوطن الكبير، وهذه قصة طويلة لا تكاد تحتاج إلي برهنة، ويكفي الضغط علي مفتاح أي جهاز راديو أو تلفاز، عند سماع أي نشرة أخبار، حيث لن نجد أيا منها أبدا يخلو من إراقة دم عربي علي أرضه من قوي باغية، أو تميز أو تجريف أو اعتقال، أو نسف وخاصة علي أرض العراق الجريح وفلسطين المنهوبة. وهذه القوي الباغية نفسها هي التي تساند بعض النظم المعروفة ببطشها وعدوانها علي شعوبها، بل أصبحت قوي البغي الخارجي هي التي تختار أحيانا هذا النظام أو ذاك، هذا الشخص أو ذاك، ومن ثم فهي تشرع سلاح "الحقوق" في وجه هؤلاء الذين لا يطيعون أما الذين يطبعون، فإنها تغض النظر عما يرتكب في بلادهم من آثام ضد أبسط حقوق الإنسان.