قبل سبع سنوات كان طاقم الرئيس بوش للسياسات الخارجية قد أنحي باللائمة علي إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون بسبب إبرامها اتفاق سلام متعجلاً لم يستغرق سوي إحدي عشرة ساعة، لينتهي باندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية. واليوم وخلال أقل من عشرة أشهر فحسب تبقت علي ولاية الرئيس بوش، ها هي وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس تنخرط في مهمة سلام متعجلة، علي طريقة الدفع نحو السلام في سباق ضد عقارب الساعة، والدقيقة الأخيرة. ولا يبدو أن فريق سياسات بوش الخارجية يدرك مغبة ما هو مقدم عليه بمبادرته السلمية هذه المرة: أعني احتمال اندلاع حرب إسرائيلية- فلسطينية جديدة. فقد سجلت كوندوليزا رايس زيارة أخري للقدس الغربية في الأسبوع الماضي، بهدف الضغط باتجاه رؤية التزامات إسرائيلية ملموسة واضحة إزاء ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر أنابوليس الذي عقد في العام الماضي. وفيما يبدو فقد تمكنت من تحقيق بعض التقدم في مساعيها هذه، متمثلاً في إزالة بضع مئات من حواجز الطرق العسكرية المنصوبة في الضفة الغربية. ولكن علي رغم هذا التقدم الظاهري، ربما كان في تعاقب سلسلة الزيارات الخفية التي قام بها عدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين إلي واشنطن خلال الشهر الماضي، أقوي مؤشر علي تطورات الوضع الإسرائيلي الفلسطيني اللاحقة: احتمال أن إسرائيل تعد لخوض مواجهة واسعة النطاق مع حركة "حماس"، التي لا تزال تفرض سيطرتها علي قطاع غزة. وكادت تشتعل نيران هذه المواجهة بالفعل خلال الشهر الماضي، عندما شرعت "حماس" للمرة الأولي في إطلاق صواريخ إيرانية الصنع علي مدينة عسقلان، إضافة إلي أسراب الصواريخ المحلية الصنع التي ظلت تستهدف بها الحركة بلدة "سديروت" منذ عدة سنوات. غير أن نيران تلك المعركة الوشيكة أطفأتها سلسلة الطلعات الجوية التي قامت بها الطائرات الإسرائيلية فوق سماء غزة الشهر الماضي، إلي جانب دخول مصر طرفاً في التوسط بين طرفي النزاع، من أجل التوصل إلي هدنة طويلة الأمد، بتشجيع من الخارجية الأمريكية. غير أن المسؤولين الإسرائيليين يصورون كلاً من رئيس الوزراء إيهود أولمرت ووزير الدفاع إيهود باراك، بأنهما ليسا علي درجة من الاستعداد بما يكفي للتوصل إلي أي صفقة مع حركة "حماس". فمن جانبهما يعترفان بأن وقف الهجمات من كلا الجانبين سيذلل محادثات السلام، وبأن اندلاع مواجهة شاملة لا يعني شيئاً آخر سوي وأد قمة أنابوليس. بيد أن هذه الاعترافات لا تثني المسؤولين الإسرائيليين عن الاعتقاد المستمر بأن خوض مواجهة واسعة وحاسمة مع حركة "حماس"، هو أكثر أهمية استراتيجية بالنسبة لهم من دخولهم في محادثات سلمية مع التيار الفلسطيني المعتدل الذي يرمز إليه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس "أبو مازن". وفيما نقله لي أكثر من مسؤول إسرائيلي في القدسالغربية، أنه لا مناص من مواجهة كهذه مع "حماس"، ربما قبيل نهاية ولاية الرئيس بوش الحالية. ومما يزيد من احتمالات هذه المواجهة، ما يأخذه الإسرائيليون علي حركة "حماس" من تزايد عمليات تهريبها للأسلحة من إيران عبر الحدود المصرية، علي رغم الضغوط التي تواصلها واشنطن من أجل وقف هذه العمليات. ويقول المسؤولون في القدسالغربية إن حركة "حماس" تحاكي بدرجة كبيرة وملحوظة، ما فعله "حزب الله" اللبناني المدعوم من قبل إيران، فيما يبدو من انهماكها ببناء ترسانتها الصاروخية وأسلحتها التقليدية الأخري، وكذلك انشغالها ببناء الحصون الدفاعية وغيرها من عناصر البنية التحتية القتالية. وفيما قاله هؤلاء المسؤولون، فقد سافر المئات من مقاتلي مليشيات "حماس" إلي إيران، بهدف تلقي التدريبات العسكرية في استخدام صواريخ "Grad"، وهي النسخة الإيرانية من صواريخ "كاتيوشا" السوفييتية الصنع. وبسبب الضربة الموجعة التي وجهها "حزب الله" إلي الجيش الإسرائيلي في حرب صيف عام 2006 بجنوب لبنان، فقد خاض هذا الأخير سلسلة من الدورات والتدريبات العسكرية المضادة لمعاقل وحصون حركة "حماس" في قطاع غزة. ولكن كلما امتد انتظار الجيش الإسرائيلي للانقضاض علي الحركة -وهي تشكل في نظره تهديداً خطيراً وجدياً لأمن إسرائيل- كلما ازدادت فرص تمكن "حماس" من شن المزيد من هجماتها الصاروخية علي البلدات الإسرائيلية الجنوبية، وبالتالي تزداد فرصها في قتل أعداد أكبر من الإسرائيليين. ووفقاً للتحليل الإسرائيلي، فإن اتفاق وقف إطلاق النار الذي تتوسط من أجله مصر -ويتظاهر قادة "حماس" برغبتهم فيه- إنما يزيد الوضع سوءاً وتفاقماً، طالما أنه يتيح الفرصة ل"حماس" ويمنحها وقتاً وظروفاً أفضل لتسريع بناء ترسانتها العسكرية. ومن جانبهما يود الرئيس بوش ووزيرة خارجيته رايس لو توقف إسرائيل هجماتها علي "حماس"، حتي يتمكن إيهود أولمرت من إبرام اتفاق علي مبادئ التسوية السلمية المستديمة للنزاع الدائر بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني. ولكن علي رغم ما يبديه أولمرت من رغبة في التوصل إلي اتفاق كهذا، فإن قناعة الإسرائيليين تتزايد يوماً بعد الآخر بأنه لن يكون في وسع حكومة فلسطينية يقودها "أبو مازن" تطبيق اتفاق كهذا. وهذا ما يزيد من احتمالات مواجهة تبدو حتمية ووشيكة بين إسرائيل و"حماس"، يصفها مسؤولون إسرائيليون بأنه ليس بالضرورة أن تنتهي إلي إعادة احتلال كامل للقطاع. ولكن بسبب ردة الفعل الدولية الغاضبة المتوقعة علي أي اعتداء إسرائيلي علي فلسطينيي القطاع، وبسبب الحرج الذي تثيره التغطية التليفزيونية الواسعة لمعاناة هؤلاء، فالأرجح أن ينتظر أولمرت أي استفزاز يبدر من جانب "حماس" لشن هجومه المدبر سلفاً علي القطاع.