"برسبوليس" فيلم إيراني منعته إدارة الأمن العام في لبنان من العرض في دور السينما اللبنانية؛ ولم يكن سبب العرض أن به أمرا جنسيا فاحشا- حاشا لله- ولا دعوة سياسية ضد طرف أو آخر في الحياة السياسية الإيرانية- والحمد لله- ولا يعادي الدين ولا الأخلاق الاجتماعية والسياسية لأي طرف من الأطراف المعنية. الفيلم لا يزيد عن قصة عن تجربة لكاتبة وفنانة إيرانية عاشت تجربة الثورة الإسلامية وبعد التحمس لها هربت من إيران كلها. وطبقا لكل العروض التي تناولت الفيلم فإنه لا يزيد عن تجربة إنسانية بلا شعارات زاعقة، لا تزيد كثيرا عن تلك القصص التي تم تنناولها في مصر من خلال عدد من الأفلام التي تحدثت عن "جرحي الثورة" ومن تألموا منها بعد أن تحمسوا لها. ولكن الموضوع لا يخص الأفلام بقدر ما يتعلق بالسياسة، فمن ناحية فإن الفيلم منع من العرض في لبنان؛ ولو كان لكل بلد معني من المعاني يخصه ويلتف حوله منطق وجوده، فإنه بالنسبة للبنان يدور حول الحرية، والحرية الثقافية والفنية تحديدا. وبشكل ما فإن لبنان وبيروت بالذات حفرت لنفسها مكانة خاصة من حيث الكتب والمجلات التي تنتجها والحريات العامة والشخصية التي تقوم عليها. ولكن من ناحية أخري فإن الفيلم هو فيلم إيراني تعترض عليه السلطات الإيرانية لأن له موقفاً سلبياً من الثورة التي يفضل الإيرانيون أن يمدحوا فيها في كل الأوقات. وهم في ذلك- في الحقيقة -لا يختلفون عن كل الثورات الأخري التي سبقتهم والتي لحقتهم حيث الأمور كان يعتقد في مثاليتها. وفي وقت من الأوقات كان في مصر سينما خاصة هي سينما "أوديون" لا تعرض إلا الأفلام الروسية التي لم يكن فيها إلا ما يمجد الثورة البلشفية وما فعلته خلال الحرب الوطنية العظمي وهو الاسم الثوري للحرب العالمية الثانية. ولكن مثل هذا الأمر كان يمكنه أن يخص إيران وليس لبنان، ومع ذلك فإن الواقعة حدثت في البلد العربي لأن أحدا لا يريد إغضاب حزب الله الذي بات يعتبر تعرضا للحياة تحت الثورة الإيرانية من أمور السياسة العليا التي سوف تستدعي التدخل بالكلمة والنار والسلاح. وربما كانت مديرية الأمن العام مصيبة في منع عرض الفيلم إذا كان ذلك سوف يمنع نشوب الحرب الأهلية؛ أو يؤجل نشوبها علي الأقل فلا احد يريد أن تسيل دماء كثيرة من أجل التعرف علي وجهة نظر تقول أن الثورة الإيرانية مثل كثير من الثورات كانت تجربة أخري في الفشل الانساني. ولكن المسألة ليست هكذا مشهد نبيل في منع الدمار والموت حيث أن جانبها الآخر هو أن حزب الله بات هو الحكم الثقافي والسياسي في الحياة السياسية والأخلاقية للبنان. وبهذه الطريقة فإن حزب الله يكون قد كسب الحرب الأهلية اللبنانية قبل أن تطلق فيها رصاصة واحدة؛ وهي طريقة علي أي الأحوال باتت فاعلة من كل أحزاب "الله" الموجودة في المنطقة العربية حيث تنجح في فرض إطار أخلاقي وسياسي علي المجتمع حتي قبل أن تستولي علي السلطة السياسية. فالقضية هنا ليست أن إيران فرضت وجهة نظرها علي مجتمع عربي اعتاد علي الحريات الثقافية، وإنما أن حزب الله لم يكن فقط مقدمة لإيران، وإنما كان أداة من أدوات الابتزاز السياسي استنادا إلي قوة عسكرية طاغية، علي الأقل في إطار توازن القوي اللبناني. ولكن وللحق فإن الأمر لم يعد أمرا لبنانيا خالصا، أو حتي إيرانيا محددا في هذه الحالة، ولكن الثابت أن هناك حالة انزعاج ذائعة في المنطقة من التوسع الشديد في الحريات العامة التي أفرزتها الثورة التكنولوجية المعاصرة. وببساطة فإن مجتمعات ودولاً عربية عدة زادت حساسيتها لذلك التمدد الذي جري للحريات العامة من جراء تزايد قدرات أجهزة الكومبيوتر إلي درجات فائقة بسبب السرعات الهائلة والقدرات العالية علي تخزين الرسائل التي باتت ممكنة وبأسعار تتناقص كل يوم. والحقيقة أنه مهما فعل حزب الله وإدارة الأمن العام في لبنان، وكل إدارات الأمن العام في الدول العربية كلها، فلم يعد ممكنا منع تخزين كل الأفلام العالمية والشخصية التي يتسرب وجودها علي الإنترنت بما فيها فيلم "برسبوليس". وخلال شهور قليلة ماضية فإن مواقع كبري علي الشبكة الدولية أصبحت تتيح جميع الأفلام التي حازت علي جوائز الأوسكار ومعها أعداد هائلة من كل الأفلام خاصة تلك التي تعرضها بعض من دول العالم للحظر والمنع. وهكذا فإن لعبة القط والفار الجارية بين الحكومة أو الحركات السياسية التي تخاف نور الحرية، وحق الأفراد في الاختيار قبولا ورفضا انتهي تكنولوجيا دائما لصالح حق الاختيار. وبشكل من الأشكال يمكن القول أن حق المعرفة والاختيار قد تمت خصخصته بالكامل لصالح الفرد الذي أصبح لديه منصة إعلامية خاصة به وحده ولا يشاركه فيها أحد. ورغم الضغوط المختلفة التي تجري علي المدونات والمدونين فإن عددها يتصاعد بمعدلات فلكية، وبعد أن كانت منذ عام لا تزيد عن بضعة مئات فإنها تتصاعد الآن بعشرات الألوف وتخلق عالما جديدا خاصا بها يتميز بصغر السن، والمغامرة الكبيرة في الأفكار، واقتحام عوالم لم تعرفها البلدان العربية من قبل. وقد يكون ذلك مشكلا لضغوط داخلية علي أجهزة المنع والرقابة، ولكن الضغوط الخارجية لم تعد مكانها الاحتجاج بل خلق واقعاً دولياً لسوق الأفكار والتوجهات. وفي الوقت الذي كانت فيه الجامعة العربية تصدر ميثاقا جديدا للتعامل مع الإعلام كانت محطة البي بي سي البريطانية الشهيرة تجهز لعملية توسع هائلة في عملياتها الإعلامية في المنطقة من خلال محطة تلفزيونية ناطقة باللغة العربية تضاف إلي سلسلة جديدة من المحطات العربية التي تساند كل من فرنسا(24ساعة) وألمانياDW) ) وروسيا (روسيا اليوم) والولايات المتحدةالأمريكية (الحرة). وفي وقت من الأوقات كانت هناك في العالم 250 محطة ناطقة باللغة العربية قادمة من دول كبيرة بحجم الصين ومن دول صغيرة بحجم هولندا وألبانيا. ويبدو أن ذلك سوف ينتقل الآن إلي مجال البث التلفزيوني في شكل باقات واسعة من المحطات الرياضية والفنية والإخبارية. وهكذا فإن منع "برسبوليس" لن يكون تكلفته أكثر من وقت صغير للبحث عن الفيلم علي الشبكة الدولية للمعلومات، أو الضغط علي الريموت كنترول من أجل إيجاد محطة تذيعه في وقت مناسب !!.