"اعرف عدوك"، حكمة قديمة، اما الاستفادة من دروس تجربة هذا العدو ومن اسلوبه في التعاطي مع القضايا الكبري، فهي، كما يبدو، آخر ما يهم المعنيين بالقرار العربي، وبالنهج المعتمد في الأمور الأكثر حساسية والأكثر دقة. الحكومة والكنيست والاحزاب الاسرائيلية كانت تشعر بالخوف في انتظار صدور التقرير النهائي للجنة فينوجراد حول التقصير والفشل في جوانب اساسية من الحرب علي لبنان، وعندما صدر التقرير برزت ردود فعل متباينة، ومتفاوتة في جرأتها او في جديتها، لكنها كلها تجمع علي ضرورة المحاسبة علي الاخطاء، وكلها تدعو الي الصراحة والمكاشفة سواء في مرارة "الهزائم الماضية" أو في التحضير لاي حرب جديدة، سواء علي لبنان او علي قطاع غزة او علي اي مكان آخر.وفي معزل عن الطرق الملتوية التي استطاع فيها ايهود اولمرت وحكومته الافلات من دفع ثمن تلك "الاخفاقات"، فإن اسرائيل تعمل دائما علي الظهور بمظهر دولة المؤسسات، ودولة الرقابة البرلمانية والمحاسبة القضائية، وإخضاع القرارات للنقد والتمحيص علي الرغم من دقة الموقف او خطورة المعلومات.. الخ. في ما مضي، اتُهم "قادة كبار" مثل آرييل شارون بتجاوز قرارات القيادة السياسية، كما فعل عندما اجتاز نطاق الجنوب اللبناني وصولا الي العاصمة بيروت في عام 1982. وقبله اتُهمت جولدا مائير وبعض قادتها بالتفرد بقرارات زادت في فداحة انهزام الجيوش الاسرائيلية في حرب اكتوبر 1973، الا انه في نهاية المطاف عرفت الدولة العبرية ليس فقط كيف تتجاوز الانتكاسة العسكرية وتحقق اختراقا سياسيا و"تطبيعيا" في الداخل العربي، بل ايضا كيف تعيد بناء مؤسساتها العسكرية والاستخبارية وغيرها وبحيث كرست دورها كدولة "اقليمية عظمي" وعلي غير صعيد. عندنا في العالم العربي وفي ما عدا حالات قليلة ونادرة، فإن عملية المحاسبة والمراقبة تبدو اما هزيلة ومحكومة بسقف "سلطوي"، واما ملتبسة ومنطلقة من اعتبارات هامشية او فئوية _ او طوائفية وقبلية في بلدان اخري _ ومن دون ارساء الاسس الصحيحة لمعالجة اي خلل، ولتفادي الوقوع في اخطاء قد تكون اشد فداحة. هذا ينطبق علي العديد من السياسات الاقتصادية والانمائية المعتمدة في ما كان يسمي ب "دول المواجهة"، وحيث تمت التضحية بكثير من مقومات الانماء ومصالح المواطنين _ وبحرياتهم السياسية _ تحت ستار التفرغ لشئون المواجهة العسكرية واستعادة الحق المغتصب. وهذا ينطبق ايضا علي فشل العديد من الانظمة في حل المشاكل الاجتماعية "والمناطقية" التي تزداد تعقدا. اما المعالجات المتعلقة بالنزاعات الاهلية، وبالصراعات الحدودية، وبمعضلات شائكة كما هي الحال في السودان والصومال والصحراء الكبري وغيرها، فكلها تدور في حلقة مفرغة نظرا لانعدام وجود "آلية عربية" فاعلة لحل النزاعات، او لمساعدة الشعوب المعرضة للجوع والتمزق والمخاطر الارهابية وما اليها. وحتي بالنسبة للدول والجهات المعنية مباشرة بتداعيات تقرير فينوجراد الاسرائيلي، فلا يبدو ان هناك استفادة حقيقية مما جري من احداث (حرب يوليو 2006)، ومن تداعيات سابقة ولاحقة فليس هناك اي جدية في انقاذ العملية الدستورية في لبنان ولبناء مؤسسات الدولة حتي يصار الي تحصين البلاد ازاء اي خطر _ اسرائيلي او غير اسرائيلي _ بل العكس هو الحاصل. اما الفصائل الفلسطينية المهددة بالعدوان الاسرائيلي المتواصل علي غزة والضفة معا، فهي تمعن في تصعيد الخلاف الداخلي وتسهم في زيادة معاناة شعبها، مما يزيد في ارباك المعنيين بموضوع المعابر، واولهم السلطات المصرية، كما يعطي ايهود اولمرت فرصة ذهبية للقول انني قد نجوت من تداعيات "فينوجراد" المتعلق بالحرب علي لبنان واصبحت يدي طليقة في استباحة المناطق الفلسطينية، وربما غيرها ايضا!