عرف المعنيون الرئيسيون عشية الأحد في 6/1/2008 نصّ البيان عن لبنان (والذي تحوَّل إلي قرار) الذي صدر عن الاجتماع غير العادي لوزراء الخارجية العرب في رحاب الجامعة العربية بالقاهرة. لكن الغالب أننا لن نعرف التحضيرات الطويلة العريضة التي أدّت إليه، والتي استمرت لأكثر من عشرة أيام. وكان المراقبون قد احتاروا في تفسير دعوة مصر والسعودية إلي الاجتماع الاستثنائي قبل أسبوع. فقد ذهب الأكثرون إلي أنه في الغالب مظهر من مظاهر استمرار الصراع مع سوريا علي الملفات الكبري في العراق وفلسطين ولبنان. وقد استند هؤلاء إلي كلام المسئولين السوريين خلال الأسبوعين الماضيين، وهجمات الصحف السعودية علي نائب الرئيس السوري فاروق الشرع. لكن، عندما كانت الأزمة تشتد في الداخل اللبناني، كان الطرف الفرنسي يتردد كثيراً في القَطْع مع سوريا. وكان المفاوض الإيراني علي لاريجاني يغادر القاهرة إلي دمشق بعد أن اجتمع في مصر (في زيارته الخاصة!) بوزير الخارجية المصري، والأمين العام للجامعة العربية، وشيخ الأزهر. كما كان رئيس الوزراء القَطَري ووزير الخارجية العُماني يجريان اتصالات بعيدة عن الأضواء، أحدهما بسوريا، والآخر بطهران. وكان اللافت للانتباه أنه وفي مساء السبت، وقبل الاجتماع الرسمي يوم الأحد، التقي ولأكثر من ساعة، وفي دارة عمرو موسي الأمين العام للجامعة، كل من وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، ووزير الخارجية السوري وليد المعلم، ورئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم بن جبر (الذي قدِمَ إلي القاهرة من دمشق)، ووزير الخارجية العُماني يوسف بن عَلَوي. وهناك فيما يبدو جري تظهير البنود الثلاثة للبيان في شأن لبنان، ليأتي إعلان الأمين العام للجامعة عنها بعد اجتماع قصير وتشاوري في مقر الجامعة، وقد أُضيف إليها البندان الرابع والخامس - وهما إجرائيان - ويتعلّقان بتكليف الأمين العام للجامعة المجيء إلي لبنان لمتابعة تنفيذ الحل، والبند الآخر المتعلّق باجتماع وزراء الخارجية العرب مرة أخري يوم 27/1/2008 كي يقدّم لهم الأمين العام تقريراً عما توصل إليه في المهمة التي كُلِّف بها. أما البنود الثلاثة الأساسية فتنص علي انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية "فوراً، وفقاً للأصول الدستورية". و "الاتفاق الفوري علي تشكيل حكومة وحدة وطنية"، ولها بحسب البند الثاني هذا ضابطان: "أن تجري المشاورات لتأليفها طبقاً للأصول الدستورية"، و "ألاّ يتيح التشكيل ترجيح قرار أو إسقاطه بواسطة أي طرف، ويكون لرئيس الجمهورية كفة الترجيح"، وأخيراً أن يبدأ العمل علي صوغ قانون جديد للانتخابات فور انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة. سمي قرار الجامعة العربية خريطة الطريق هذه بأنها خطة متكاملة. وهي كذلك بالفعل لأنها تضم المسائل الأساسية التي يجري عليها الخلاف منذ عام ونيف: رئاسة الجمهورية، وتشكيل الحكومة الجديدة واشتراع قانون جديد لانتخابات مبكرة. وكانت الأكثرية قد نجحت في أمرين في مراحل تطور الأزمة السياسية بعد حرب (يوليو): صمدت الحكومة علي رغم مغادرة الوزراء الشيعة لها، واستطاعت عزل رئيس الجمهورية السابق الممددة ولايته أميل لحود في القصر، من دون أن تتمكن من إسقاطه، وصمدت في وجه الاغتيالات والتفجيرات وآخرها حرب "فتح الإسلام"، لكنها عجزت عن أمور عدة: ما أمكن لها أن تُخرج حكومة السنيورة والمواطنين من أسر الحصار الذي فرضته عليها المعارضة بالاعتصام الجاثم في وسط بيروت، وما تمكنت من تفعيل قوتها العددية بالمجلس النيابي بفتحه بعد أن أقفله رئيسه منذ خروج الوزراء الشيعة من الحكومة. كما أنها ما تمكنت أخيراً من انتخاب رئيس للجمهورية بعد انقضاء فترة لحود، لأنها لا تملك تأمين نصاب الثلثين اللازم لانعقاد المجلس، ولانتخاب الرئيس الجديد. ومن ناحية أخري، ما استطاعت المعارضة التي يشكل "حزب الله" طرفها الرئيس، أن تحقق أياً من مطالبها التي وضعتها كلها تحت عنوان: "المشاركة"، وصعّدتها أحياناً إلي المطالبة بإزالة "الحكومة العميلة"، بينما ركز تيار الجنرال عون أخيراً علي استعادة المسيحيين لحقوقهم ووزنهم في النظام. وصحيح أن حكومة الرئيس السنيورة حظيت بدعم عربي ودولي قوي، لكن هذا الأمر ما أبهَت له المعارضة، بقدر ما شعرت بالإحراج والانكشاف بعد أن تعرضت لهجمات البطريرك صفير بعد فراغ منصب الرئاسة، وحيلولة رئيس مجلس النواب دون انتخاب خَلَف له. وصار الضغط لا يطاق عندما أقدمت الأكثرية علي ترشيح قائد الجيش للرئاسة، متخلية بذلك عن تهديدها بالانتخاب بالنصف + 1، ومتخلية أيضاً عن معارضتها تعديل الدستور، وهو الأمر الذي يقتضيه ترشيح العماد سليمان. علي أنّ هذا الانكشاف اقترن بظاهرة أخري فاقعة. فقد تقدم النظام السوري علناً للمفاوضة باسم المعارضة اللبنانية مع الجهات الأوروبية والعربية، التي عناها بالفعل خلوُّ منصب رئاسة الجمهورية المسيحي والفريد في العالم العربي والإسلامي. وقد كثُر الحديث عن الأسباب التي دفعت سورية وتدفعها إلي منع انتخاب رئيس جديد للجمهورية. فمنهم من قال إن علّة ذلك المحكمة ذات الطابع الدولي والتي توشك أن تتشكل، لمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري. ومنهم من قال وبينهم الرئيس نبيه بري إن السبب هو الخلاف بين السعودية وسورية علي لبنان وغيره، وإرادة إزعاج السعودية بالاضطراب في لبنان للتوصل إلي توافق علي الملفات العالقة بين الطرفين. ومنهم مَن قال إن سورية تريد الانتقام لطريقة خروجها من لبنان عام 2005 علي أثر مقتل الرئيس الحريري، وتريد استعادة نفوذها في البلد المجاور الذي بقي جيشها فيه، وبقيت إدارتها له من آخر العام 1976 وحتي العام 2005. بيد أن هناك فريقاً وازناً ظل يتساءل عن طبيعة الدور الإيراني، ولماذا تُسلِّم إيران لسورية بالتعطيل وبكشف أنصارها في البلاد من دون داعٍ قاهر. ذلك أن انهيار الدولة في لبنان إذا حصل لا يخدم أنصار إيران في الكيان، وقد يورِّط أولئك الأنصار في نزاع مع السُنّة في لبنان، لا يفيدها في شيء أيضاً بالنظر لما تحرص عليه من علاقات مع العالم العربي وبخاصة دول الخليج ومصر. ويضيف هذا الفريق أن إيران - إضافة إلي الحرص علي العلاقات مع الأكثريات السنّية تملك ملفاً مشتركاً كبيراً ليس مع العرب فقط، بل مع الولاياتالمتحدة، هو ملف الإرهاب المتمثل في "القاعدة"، والتي هددت أخيراً بأنها موجودة في لبنان وغزة، وأخذت علي "حزب الله" قبوله بانتشار القوات الدولية علي الحدود مع الكيان الصهيوني! علي أن الفريق الأول يقول إن السؤال هنا ليس سؤال "الضرورة"، بل سؤال "الحاجة". فسورية حليف استراتيجي لإيران، وقد خدمتها وخدمت أنصارها كثيراً ولا تزال. وللنظام السوري مصالح استراتيجية تتعلق بوجوده ودوره، وهو محتاج إلي هذه الطريقة التي اعتاد عليها في الماضي ونجح فيها بالانتشار في لبنان وفلسطين والعراق. وما فقدت إيران القدرة علي الضبط والتحديد عندما يتعلق الأمر بمصالحها وعمقها الاستراتيجي. لذلك، وعندما قدّر الطرفان أن الأمر "نضج" عاد الإيراني للظهور في شخص لاريجاني الذي لم يجتمع إلي الرئيس الأسد فقط خلال زيارته الاخيرة لدمشق، بل اجتمع إلي ممثلين ل "حزب الله" وللرئيس بري وفي دمشق أيضاً. هل نضج الحل وهل يمشي أو تُنفذ "الخطة المتكاملة" للجامعة العربية؟! الذي يظهر حتي الآن أن هذا الحل أُعِدّ له بعجلة ولكن بعناية. فالسوري عاد مركزاً لمعالجة الشأن اللبناني. والإيراني حاضر. والأوروبي (ومن ورائه الفاتيكان) ليس بعيداً. فالأخبار تشير إلي عودة للفرنسي إلي دمشق، والي مجيء آخر إلي الرياض قبل أيام. وعرب المشرق وعلي رأسهم الملك عبدالله بن عبدالعزيز والرئيس المصري يديرون العملية ويستوعبون عناصرها، وعيونهم علي سد وجوه الخلل علي مشارف العملية الكبيرة في فلسطين. وبعكس ما تزعم وسائل الإعلام اللبنانية لا مصلحة للولايات المتحدة في استمرار الأزمة السياسية والاختلال الأمني في لبنان. وبخاصة أن "القاعدة" ظهرت بوضوح في أماكن عدة، وأن الرئيس الأمريكي يرجو النجاح في فلسطين، وفي "مكافحة الإرهاب"، واستعادة الاستقرار في منطقة رئيسة لنفوذه ومصالحه، كان هو المبادر إلي زعزعة الأمن فيها من أفغانستان إلي العراق! أما الأطراف الداخلية اللبنانية فهي أكثر احتياجاً من كل الجهات للاستقرار والأمن واستعادة عافية الدولة والنظام. قوي 14 مارس ذهبت عناصر رئيسة فيها ضحية الاغتيالات والتفجيرات. والقيادات الأخري هي في حال حصار أو اختفاء، ولا تستطيع التراجع إلي الخَلف، لكنها لا تستطيع التقدم إلي الأمام. أما قوي 8 مارس - وعلي رأسها "حزب الله" الذي تحمّل العبء الأكبر في المواجهة - فقد انكشفت سياسياً تماماً في ملف رئاسة الجمهورية. ثم إن الحل المعروض يتناول كل مطالبها المعلنة وإن ليس بالطريقة التي أرادتها تماماً. ويستطيع الرئيس بري في التفاصيل الدستورية، أن يهبَها وجوه تلذذٍ هُزئي، إن لم تُرضها، فإنها تُحرج خصومها. ولا يبقي غير الجنرال عون، الذي لن يسكته أي حل ما دام لا يتضمن ترئيسه. لقد أعطاه الحل العربي قانون الانتخاب الذي كان هو أشد المطالبين به حماسة، وإن يكن الأصل فيه منذ قرابة العقد ونصف العقد للبطريرك صفير! وهل يكون هذا الحل إن نُفّذ نهائياً أو مُنهياً للأزمة اللبنانية؟ سيسرُّ المواطنون اللبنانيون سروراً عظيماً بانتخاب رئيس جديد للبلاد، وبانفكاك الحصار عن عاصمتهم وأمنهم. لكن نظامَهم أثبت أنه نظام أزمات بامتياز، وليس منذ الآن بل منذ العام 1958. كان لدينا من جهة الانقسام المسيحي الإسلامي، والاعتداءات الإسرائيلية، والجوار السوري. وقد أُضيف إلي ملفات الاختلال والتأزم في العامين الأخيرين الانقسام الشيعي السُنّي. فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.