متعددة هي المسميات أو الشعارات التي يطلقها الغرب علي حملات أو سياسات غالبا ما تكون دول العالم الثالث مقصدها ،فمن "عبء أو واجب الرجل الأبيض "،الذي طالما ادعت الدول الاستعمارية أنه يغزو العالم لعصرنته وتحديثه وتحريره من التخلف ،فيما لم يكن الأمر يتجاوز في حقيقته استعمار دول العالم الثالث ونهب ثرواتها واستعباد شعوبها، إلي "رسالة الحرية الأمريكية" ،التي يزعم مروجوها الأمريكيون منذ القدم حرصها علي دمقرطة العالم وتحرير شعوبه من رق التسلط والقمع. بينما كان الواقع يشي بما هو اقرب إلي التغطية علي المساعي الأمريكية للهيمنة علي العالم والتدخل في شئون دوله بما يخدم المصالح الاستراتيجية العليا لواشنطن ،التي لم تكل يوما ما عن تجديد التزامها بنشر الديمقراطية عالميا ،من خطاب الرئيس فرانكلين روزفلت حول "الحريات الأربع" الذي ألقاه عام 1941، داعيا فيه إلي مقاومة العدوان النازي والياباني،ونشر حرية التعبير، و العبادة، والتحرر من الحاجة و الخوف، إلي وثيقة "استراتيجية الأمن القومي الأمريكي" التي أصدرتها إدارة الرئيس بوش الإبن في سبتمبر عام 2002، والتي تبنت فكرة نشر الديمقراطية والحرية خارج الحدود الأمريكية، أو ما أطلق عليها الرئيس بوش في خطابه الشهير أوائل عام 2002 "أجندة الحرية". و لقد ظل الالتزام الأمريكي بتلك "الرسالة العالمية" يعلو ويخبو وفقا لمقتضيات المصالح الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة ،فكثيرا ما تغض واشنطن الطرف عن انتهاك أنظمة بعينها للديمقراطية وحقوق الإنسان في بلادها طالما أبقت تلك الأنظمة علي ولائها ودورها المنوط بها لخدمة تلك المصالح والمشاريع الأمريكية ،في الوقت الذي تناهض واشنطن أيضا أنظمة ديمقراطية تجنح باتجاه التمرد علي الهيمنة الأمريكية أو تسول لها نفسها تحدي المشاريع والمصالح الأمريكية. وبعيدا عن أمريكا اللاتينية والعراق وأفغانستان، تبدو الصورة أكثر وضوحا فيما يجري حاليا في كل من باكستان وجورجيا ،اللتين أسهمت واشنطن بصيغ مختلفة في ترسيخ أقدام نظاميهما في الحكم لأسباب يتعلق ظاهرها بمساندة التحول الديمقراطي بينما يتسع باطنها لأهداف وتطلعات استراتيجية أعمق أثرا وأبعد مدي . ففي باكستان ،وحينما بلغ الجنرال مشرف ذروة بطشه وتعديه علي الديمقراطية وحقوق الإنسان،بإعلانه مساء الثالث من نوفمبر الماضي حالة الطواريء في بلاده فيما وصف بأنه انقلاب ثان،اتهمت إدارة الرئيس بوش بالتواطؤ معه حرصا منها علي الدور الذي يضطلع به مشرف في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب وتوخيا للحيلولة دون تنامي نفوذ المتطرفين الإسلاميين المتعاطفين مع تنظيمي القاعدة وطالبان ،أو سقوط الأسلحة النووية الباكستانية في أيديهم.لذا،كانت تحركات واشنطن لتحقيق تلك الغايات أكثر سرعة وأشد جدية من مساعيها لوقف طوفان التسلط والقهر، حيث أنفقت إدارة بوش نحو مائة مليون دولار علي برنامج بالغ السرية لمساعدة باكستان في تأمين أسلحتها النووية تتضمن تمويل أنشطة تدريب عناصر باكستانية في الولاياتالمتحدة، وبناء مركز تدريب نووي أمني في باكستان، تسليم مروحيات ومناظير للرؤية الليلية ومعدات للتفتيش النووي لتأمين حماية الرؤوس النووية والمختبرات.كما تبحث الإدارة خطة أخري لإرسال قوات خاصة أمريكية وبريطانية إلي باكستان للسيطرة علي أسلحتها النووية ونقلها إلي مكان آمن داخل أو خارج البلاد في حالة انزلاق الأوضاع فيها إلي الفوضي كما تتضمن الخطة أيضا سيناريو أمريكي للتدخل العسكري من أجل إنقاذ ونصرة الرئيس الباكستاني مشرف وحليفه قائد الجيش الجنرال أشفق كياني. ولما باتت صدقية ادعاءات إدارة بوش بشأن نشر الديمقراطية في العالم علي المحك،كان لزاما عليها تحري أية وسيلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقي من تلك الصدقية ،فكان إيفادها جون نيجروبونتي مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية إلي إسلام أباد،ما اضطر مشرف لاحقا لاتخاذ ثلاث خطوات مهمة ،استهلها بدعوة رئيس الوزراء الباكستاني الأسبق ورئيس حزب الرابطة الإسلامية، نواز شريف للعودة إلي باكستان يوم الخامس والعشرين من الشهر الماضي وقبل ساعات من إغلاق باب الترشيح للانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في الثامن من يناير المقبل، بل والسماح له ولحزبه بخوض الانتخابات، رغم انتقاداتهم المستمرة لمشرف. وأما الخطوة الثانية ،فكانت تنازل مشرف عن قيادة الجيش وخلعه بزته العسكرية عشية أدائه القسم الدستوري رئيسا مدنيا لولاية جديدة مدتها خمس سنوات. وبعدها بساعات جاءت خطوة مشرف الثالثة متمثلة في إعلانه عن عزمه إلغاء حالة الطواريء في البلاد بحلول يوم السادس عشر من الشهر الجاري. وفي جورجيا،التي ظل بوش الابن يعتبرها بمثابة الانتصار الوحيد لسياسته الخارجية في مجال نشر الديمقراطية في الخارج،ضن الشعب الجورجي علي بوش بنشوة الاستمتاع بتداعيات "الثورة الوردية " التي كان قد دعمها عام 2003 في هذا البلد بقيادة الرئيس الحالي ميخائيل ساكاشفيلي إلي مدي أطول،بعد أن خرج الجورجيون في تظاهرات حاشدة يوم السابع من الشهر الماضي ضد إنتهاكات نظام ساكاشفيلي ،الذي أعطي أوامره للسلطات الأمنية بتحري كافة السبل لقمعها بعد أن فرض حالة الطوارئ ،في الوقت الذي طالت إدارة بوش إتهامات بالتواطؤ مع نظام الرئيس ساكاشفيلي وتجاوزاته وإفتآته علي الديمقراطية حينما لم تمارس ضغوطها عليه لحمله علي التراجع ،كما سبق وأن التزمت الصمت الكامل في سبتمبر الماضي حيال قضية اعتقال تبليسي وزير الدفاع السابق إيراكلي أوكراواشفيلي بعد يومين من إعلانه تشكيل حزب معارض واتهامه الرئيس ساكاشفيلي بالفساد والتآمر في تصفية قيادي معارض . وتري الإدارة الأمريكية أن ساكاشفيلي،الذي أرسل قوات للعراق يناهز حجمها ربع تعداد الجيش الجورجي لتغدو الدولة الثالثة الأكثر تمثيلاً عسكرياً هناك توخيا لرضاء إدارة بوش ، لم يرتكب أدني هفوة منذ توليه السلطة. و في ذات السياق،كان بوش قد عبر إبان زيارته تبليسي عام 2005 أمام حشد ضم 150 ألف جورجي عن شعوره بالفخر جراء الوقوف إلي جانب رئيس أظهر كفاءة وإقتدار. ومثلما شهدت باكستان إستياء شعبيا جارفا من موالاة مشرف لواشنطن ،قوبل تهافت الرئيس الجورجي ساكاشفيلي علي الأمريكيين بمقت مماثل من قبل الشعب الجورجي ،لاسيما بعد أن أخفقت فروض الولاء والطاعة التي ما برح يقدمها لإدارة بوش في انتزاع تأييد واشنطن لانضمام جورجيا لحلف شمال الأطلسي ،وهو الأمرالذي طالما جعل منه الجورجيون أولوية قصوي لسياستهم الخارجية بغرض تقوية موقف بلادهم في مواجهة أي اعتداء روسي عليها حالة تصاعد التوتر القائم بينهما علي خلفية دعم موسكو لمساعي منطقتين انفصاليتين جورجيتين الانسلاخ عن نسيج الدولة الجورجية. غير أن استشعار الأمريكيين للتداعيات السلبية الخطيرة لتواطؤ إدارة بوش مع إعتداءات الرئيس الجورجي علي الديمقراطية ،كان من شأنه أن يستحث مساعي الإدارة لإظهار شيء من الحرص علي إنقاذ ما اعتبره بوش النموذج الوحيد الناجع لإقرار الديمقراطية في الخارج، من الفشل والإنتكاسة.لذا، أوفدت إلي جورجيا ماثيو بريزا كمبعوث خاص لإنقاذ الموقف،ورغم أن الدبلوماسي الأمريكي قد نجح في انتزاع تعهد برفع حال الطوارئ ، إلا أن واشنطن لم تتورع عن ممالأة ساكاشفيلي من خلال تأييد دعوته إجراء انتخابات رئاسية مبكرة في يناير المقبل، بدلاً من طلب المحتجين الدعوة إلي انتخابات برلمانية مبكرة في ربيع السنة المقبلة عوضاً عن الخريف، رغم إدراك إدارة بوش أن دعوة الرئيس الجورجي لا تتعدي كونها خطوة لاحتواء التحرك الشعبي الغاضب وتعزيز سيطرته علي الأمور، علي نحو ما اعترف به علناً في الكلمة التي وجهها إلي الشعب عبر التليفزيون الرسمي الوحيد الذي يبث حالياً في البلاد. وإذا كان نموذجا باكستان وجورجيا يعبران عن اتجاه شبه عام فيما يخص تعاطي واشنطن مع مسألة نشر الديمقراطية عالميا ،فإن علامات استفهام شتي تطل برأسها في محاولة لاستيضاح مساحة الصدقية التي تحظي بها المساعي الأمريكية في هذا الخصوص،بما يعين علي تفهم الممانعة العالمية لما يمكن أن يسمي ب"الغزوة الديمقراطية "الأمريكية لتلك الدول،والتي تلتقي تحت لوائها رغبات حكامها في التمسك بالسلطة وتعطش شعوبها إلي استنشاق نسيم الحرية الغائب.