بعد مضي ثلاثة عقود من التوتر بين كل من واشنطنوطهران، هاهما الآن وقد أصبحتا في مواجهة اندلاع حرب باردة شاملة بينهما. وفيما يذكر، كان رئيس الوزراء الأسبق "ونستون تشرشل" قد أطلق عبارته الشهيرة عن نهوض "الستار الحديدي" الفاصل بين شطري القارة الأوروبية، مع بدء الحرب الباردة بين المعسكرين السوفيتي والغربي في عام 1946 ومع اندلاع الحرب الباردة الثانية الآن، بعد مضي نصف قرن علي الأولي، هاهي إدارة بوش تسعي إلي إسدال "ستار أخضر" قصد منه تقسيم الشرق الأوسط إلي قسمين، أحدهما لأصدقاء إيران والآخر لأعدائها. وربما كانت المواجهة المتصاعدة هذه بين واشنطنوطهران، مجرد مظهر من مظاهر تداعيات تركة الحرب الأمريكية الأخيرة علي العراق. ومما لاريب فيه أن النتائج التي ستفضي إليها هذه المواجهة، سوف تكون لها تأثيرها البالغ علي تشكيل مستقبل منطقة الشرق الأوسط بأسرها، ليس أقله العجز البادي للاستراتيجية التي تتبعها إدارة بوش إزاء العراق. واحتلت الحرب الباردة هذه مركز الاهتمام الدولي عقب إرسال الرئيس بوش، وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس ووزير دفاعه روبرت جيتس، إلي الشرق الأوسط في مسعي أخير منه، لاستنفار همة حلفائه العراقيين. حيث حمل رسالة إلي القادة العرب السُنّة في المنطقة واضحة وبسيطة للغاية: إما أن تدعموا العراق كمنطقة أمنية عازلة ضد طهران، أو الاستسلام للعيش تحت الجدار الإيراني المتطاول عليكم. وعلي رغم أن كلاً من واشنطنوطهران قد ظلتا علي خصومتهما وعدائهما المستحكمين، منذ عام 1979، الذي اندلعت فيه الثورة الإسلامية، وجري فيه تغيير النظام الملكي الحاكم وقتئذ في طهران، بقيادة دينية متشددة، فإن واشنطن شعرت بضرورة إحكام طوق من العزلة الدولية والإقليمية علي طهران خلال الثمانية عشر شهراً الماضية، خاصة بعد أن بدأت ترجح كفة التوازن الاستراتيجي للمنطقة الشرق أوسطية لصالح إيران. ففي فلسطين، تمكنت حركة "حماس" المدعومة من قبل إيران، من اكتساح الانتخابات العامة الوحيدة من نوعها التي شهدتها المنطقة في يناير من عام 2006. ثم تمكنت هذه الحركة من إزاحة خصمها العلماني "حركة فتح" عبر الانقلاب العسكري الذي نفذته مؤخراً في قطاع غزة. أما في لبنان، فقد خاض "حزب الله" الموالي لإيران، أطول مواجهة مسلحة مع تل أبيب منذ نشأة الدولة العبرية، بفضل الأسلحة والدعم الإيرانيين المتوفرين له، واستطاع أن يصمد أمامها في حرب الصيف الماضي، علي رغم التفوق العسكري الإسرائيلي الكبير عليه. وإلي ذلك تتهم سوريا الحليف الأوثق لإيران، بإغفال الرقابة علي حدودها، التي تتفق الشكوك حول تسرب المقاتلين الإرهابيين عبرها إلي الجار العراقي، إلي جانب ما يثار من اتهامات بشأن تسرب الأسلحة القادمة من إيران عبر سوريا إلي "حزب الله" وإلي الجماعات الفلسطينية المتطرفة المناوئة لعملية السلام هناك. وفي كل ذلك ما يقوض الاستراتيجيات والأهداف الأمريكية العليا في المنطقة. أما في العاصمة العراقية بغداد، فقد تمكنت الميليشيات المسلحة ?والمدعومة من قبل طهران، من تحويل شوارعها وأحيائها السكنية _بما فيها المنطقة الخضراء التي تخضع لحماية مشددة- إلي مناطق غير آمنة حتي بالنسبة للجيش الأمريكي نفسه. وعلي حد تعليق "ريتشارد هاس"، رئيس لجنة العلاقات الخارجية، الذي تولي إدارة خطط سياسات وزارة الخارجية الأمريكية خلال ولاية بوش الأولي، فإن ما يجعل الأمر مختلفاً هذه المرة، هو تزايد شعور طهران بتفوقها الاستراتيجي الإقليمي، بسبب ارتفاع عائداتها النفطية، ونتيجة للضعف الذي اعتري جارها العراق منذ انهيار نظام خصمها القوي اللدود صدام حسين، وكذلك بسبب النجاح الذي أحرزه كل من "حزب الله" وحركة "حماس"، وهما أقوي حلفائها في لبنان وفلسطين المجاورتين. وفي المقابل، تعاني الولاياتالمتحدة من الشعور بالاستنزاف الحاد في هذه المواجهة، سواء بسبب الارتفاع العالي لأسعار النفط، أم تحت تأثير المصاعب التي تواجهها في كل من العراق وأفغانستان. علي أن جذور هذه الحرب الباردة التي بدأت تستعر نيرانها الآن، تعود في الأساس إلي اعتزام إدارة بوش تغيير كافة الأنظمة الحاكمة التي اعتبرتها عدوة لها، عقب هجمات 11 سبتمبر. وكان الهدفان الرئيسيان لتلك الاستراتيجية هما نظام "طالبان" الأفغاني، ونظام صدام حسين، وقد تصادف أن كان كلاهما خصماً لطهران. وللمفارقة فقد تولت أمريكا اليوم لعب الدور التقليدي نفسه الذي كان يؤديه نظام صدام حسين ضد طهران، بحسبان أن ذلك النظام كان بمثابة القوة الإقليمية الموازية لإيران! والملاحظ أن إدارة بوش الحالية، تتبني ذات التكتيكات التي تبنتها واشنطن في الحرب الباردة الأولي بينها والمعسكر السوفيتي. بل الصحيح أن طرفي الحرب الباردة الحالية، يعملان من أجل تقويض أحدهما الآخر. فمن جانبها نشرت واشنطن حاملة طائرات حربية ثالثة في السواحل المتاخمة لإيران، إلي جانب استصدارها قرارين دوليين بفرض العقوبات علي مؤسسات مالية إيرانية ومسئولين عسكريين إيرانيين، واعتقالها لعدد من المتعاونين مع مؤسسات أمنية إيرانية داخل العراق. ولم تكتف الولاياتالمتحدة بتلك الإجراءات وحدها، بل خصصت مبلغ 75 مليون دولار لهذا العام، و108 ملايين دولار للعام المقبل، بهدف حفز عملية التحول الديمقراطي في إيران. بل ذهبت بعض التقارير إلي القول بترتيب واشنطن لعمليات سرية داخل طهران، تستهدف إطلاق حملات دعائية معادية لها، إلي جانب التلاعب بعملتها المحلية. وفي الجانب الإيراني، فقد وسّعت طهران من نطاق توفيرها للمتفجرات والقنابل التي تستخدم في جانبي الشوارع العراقية، إضافة إلي توفيرها قذائف الهاون والصواريخ للميليشيات العراقية، إلي جانب الدعم العسكري الذي توفره ل"حزب الله"، وتوفيرها لعشرات الملايين من الدولارات لحكومة "حماس"، تمكيناً لها من مواجهة المقاطعة الدولية التي فرضت عليها عقب الانتخابات. كما اعتقلت طهران عدداً من الأمريكيين داخل أراضيها بتهمة تهديد أمنها الوطني، مضافاً إلي ما يقال عن توفيرها للأسلحة الخفيفة لمقاتلي حركة "طالبان"، حتي توجه إلي صدور الجنود الأمريكيين المرابطين في أفغانستان. وهكذا تتعزز وتكثر أوجه الشبه بين الحربين الباردتين الأولي والثانية هذه، وإن اختلفت الأطراف المشاركة فيها حالياً.