في أفعال إدارة الرئيس بوش وما يكتبه مسئولوها، هناك ما يقطع الأنفاس دهشة وخجلاً في بعض الأحيان، عند قراءة المرء لما يكتب. وبالنسبة لي، فقد كان ذلك المقال الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في عددها ليوم 20 مارس الجاري، الذي تناول تلك الوثائق التفصيلية التي نشرتها لجنة تابعة لمجلس النواب للتو، بينت فيها ما يثبت مئات الحالات التي شارك فيها مسئولون من البيت الأبيض، ممن كانت لهم علاقة سابقة بقطاع النفط، في تحرير وإعداد تقارير حكومية عن التغير المناخي، هدفت إلي إثارة الشكوك حول وجود أي دور أو مسئولية بشرية فيما يتعلق بالتغير المناخي والإحماء الشامل، أو للتشكيك في وجود أدلة علمية علي دور كهذا. من بين هؤلاء المسئولين، "فيليب إيه كوني"، الذي غادر منصبه الحكومي في العام قبل الماضي 2005، بعد الكشف عن مخازيه هذه، في صحيفة "التايمز". وكما هو متوقع، فسرعان ما تلقفته شركة "إكسون موبيل". وقبل التحاقه بالعمل في البيت الأبيض، كان "كوني" رئيساً للفريق المناخي، بمعهد "أمريكان بتروليوم" الذي يعد ذراع الضغط النفطي الرئيسي لذلك القطاع الصناعي. وذكر المقال الذي نشرته "التايمز" وكتبه كل من "أندرو ريفكين" و"ماتيو والد"، أن "كوني" قال إنه لا صلة لنشاطه السابق المعادي لفرض أية قيود علي انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، فيما نظمه من حملات ضغط نيابة عن قطاع النفط، بوظيفته الحكومية في البيت الأبيض. وقد ورد علي لسانه قوله في الشهادة التي أدلي بها في هذا الصدد: "ما ان وصلت إلي البيت الأبيض، حتي تحول ولائي كله للرئيس بوش وإدارته". ولكن ماذا عن الولاء للعلم ومصداقيته، أيها السيد "كوني"؟ رداً علي هذا السؤال، اجترأ "كوني" الذي يفتقر إلي أدني خلفية علمية، علي القول: "لقد بنيت تحريري لتلك التقارير الحكومية، علي قناعتي بأحدث الحجج العلمية التي يعتد بها اليوم في مجال المعرفة العلمية"! ولنلقِ الآن نظرة متفحصة علي هذه الوقائع. فمن بين جميع أفراد طاقم إدارة الرئيس بوش، لم يعهد بتحرير التقرير الرسمي الخاص برؤية الإدارة للتغير المناخي، إلا إلي شخص سبق له أن عمل نيابة عن قطاع النفط، في إنكار حقيقة التغير المناخي من أساسها، وعلي رغم افتقاره لأية خلفية علمية، ثم ما أن انكشف أمره، حتي عاد أدراجه إلي معاقله النفطية السابقة التي وصل منها إلي البيت الأبيض، بالتحاقه مباشرة بالعمل مع شركة "إكسون موبيل".. فهل من فساد فكري أبلغ وأكثر من هذا؟! وهل ثمة وضاعة أكثر من هذه، لأي سبب كان؟ إنني لأعجب كيف كان يمكن للسيد "كوني" أن يحرر مسودة ذلك التقرير الرسمي الأخير، الذي أعدته لجنة حكومية مشتركة، وشارك في مراجعته 1000 عالم مختص من مختلف أنحاء العالم، فيه علماء مختصون، وأعلنت نتائجه في مؤتمر دولي، تعاونت في عقده كل من جمعية الأرصاد الجوية الدولية، والأمم المتحدة. وقد شملت تلك النتائج، الإقرار بأن النشاط البشري، يعد المسئول الأول عن ظاهرة الإحماء الشامل، وكذلك أن التغير المناخي قد بدأ يلقي بآثاره السالبة علي النظم الطبيعية والبيئية في جميع قارات العالم. وعلي رغم أنني لا أروِّج لأي حزب من الأحزاب هنا، إلا أن قراءة مخازٍ كهذه عن "كوني" وأمثاله من المسئولين "الجمهوريين"، إنما تحمل المرء علي أن يشكر الرب علي عودة "الديمقراطيين" للهيمنة مجدداً علي كل من مجلس الشيوخ والنواب. والسبب أن هذا السجل المخزي لمسئولي الإدارة وممارساتهم في هذا الجانب، إنما يتطلب اليقظة والرقابة الدائمة التي لا تنام علي أفعالهم وسلوكهم. غير أن علي أن أشكر الرب أيضاً، علي تمكن أرنولد شوارزينجر، حاكم ولاية كاليفورنيا، من إنشاء تحالف ثنائي حزبي في ولايته، من أجل التصدي لمشكلة التغير المناخي. وبمبادرته هذه، لا يسهم شوارزينجر في إنقاذ سمعة الحزب "الجمهوري" من عار سيطرة كبار معارضي سياسات موجهة التغير المناخي، من شاكلة السيناتور جيمس إنهوفي، و"كوني" فحسب، وإنما هو أيضاً يمضي في إنجاز عمل ثنائي حزبي خلاق في مناهضة التغير المناخي، سرعان ما يقابل بالترحيب والإشادة في واشنطن، ما أن تذهب إدارة بوش الحالية. وكنت قد ذهبت إلي "ساكرامنتو" قبل بضعة أسابيع، بغرض إجراء حوار صحفي مع حاكم الولاية. فقال لي شوارزينجر: لا وقت للحوار الآن. وأعني بهذا، كم يلزمنا من آلاف العلماء ليخبرونا اليوم عن إجرائهم لدراسة علمية مختصة بالإحماء الشامل؟ ومضي الحاكم قائلاً: إن أكثر ما يدهش شخصاً غير سياسي مثلي، أن يرتسم هذا الخط الدقيق الفاصل بين "الجمهوريين" و"الديمقراطيين" فيما يتعلق بسياسات كليهما في مجال البيئة والتغير المناخي! لكن وعلي رغم ذلك، فها هو المزيد من "الجمهوريين" يشرع في الانخراط في صفوف العاملين من أجل حماية البيئة والتصدي لخطر التغير المناخي. بل إن ما يدعو إلي الغبطة حقاً، تعاون المزيد من "الجمهوريين" و"الديمقراطيين" معاً في العمل المشترك في هذه القضايا. وذكر لي المتحدث أنه قال في كلمته الافتتاحية لتسلم منصبه كحاكم لولاية كاليفورنيا: "ليس هناك ما يمكن تسميته بالهواء الديمقراطي النقي، أو الهواء الجمهوري النقي.. فجميعنا يتنفس الهواء ذاته، بصرف النظر عن انتمائنا السياسي. ولذلك فإن علينا أن نتضافر معاً ونعمل سوياً علي حل هذه المشكلة. ولنتعاون معاً كذلك في درء خطر الإحماء الشامل". وضمن تلك المبادرة، فقد وقع شوارزينجر علي "قانون حلول الإحماء الشامل" لعام 2005، وهو القانون الذي يتوقع لولاية كاليفورنيا، خفض انبعاثاتها من غازات بيت الزجاج، بنسبة 25 في المائة، بحلول عام 2020. فهل يذهب بقية الحكام والمسئولين الأمريكيين، إلي ما ذهب إليه شوارزينجر في درء هذا الخطر القومي والعالمي؟