مقدمة لابد منها.. "مئات القتلي والجرحي تسقط بين الاطراف الفلسطينية التي تطلق علي نفسها حركات المقاومة.. اشتباكات متفرقة، واتفاقات لوقف اطلاق النار والهدنة.. وعودة للاشتباكات ومزيد من القتلي.. وزيادة في التوتر ومسلحون وملثمون وميليشيات تعتلي الاسطح والأزقة، ورصاصات تجتاح الحواجز الأمنية، واختطافات واغتصابات للسلطة.. وكتائب هنا وأجنحة عسكرية هناك.. ومناوشات وقذائف تهب علي مقر الرئاسة.. وهكذا تتوالي الاشتباكات وتقلل هيبة الدولة والسلطة.. وعلي الضفة الاخري تستعد اسرائيل للقيام بعمليات عسكرية موسعة داخل قطاع غزة. هكذا ربح المناضلون.. وهكذا عادت الأرض الفلسطينية المحتلة.. وهكذا سقطت اسرائيل وتوارت وذهبت مع الريح...". لا يوجد في العالم العربي بلد يملك حصانة شاملة من عدم الاستقرار وان تفاوتت النسب لان قاعدة النظام، التشابه بالخوف من الجار والرعب الاشمل من القوي الخارجية وهذا انعكس علي ادارة المواقف المصيرية اما بالتجاهل واما باختراع الحلول السهلة.. وهنا صارت الاشباح لا تطارد فقط السلطات وحدها وانما المواطن علي مستقبله مما جذر الفردية والطائفية داخل البلد الواحد. إلا ان ما يحدث في البقعة الفلسطينية هو استسهال اختراع الشهادة مبررين ذلك بأن فلسفة الحرب أو الموت هو ما بقي من الرأس مال المفقود للقضية الفلسطينية اي ان انهاءها أو اجهاضها كما يطلقون يعني العودة الي الاحتلال أو تمزيق القاعدة الوطنية والتحول الي تفكيك الوحدة الوطنية الفلسطينية وهي بالتأكيد اهداف تتفق عليها كل الاطراف المؤيدة لاسرائيل مؤكدين ان العمليات الانتحارية كانت هي مفتاح الحل وانها هي التي اضاءت السماء العربية التي كسفت عنها الشمس مثلما كانت اشراقة مقاتلي جنوب لبنان بتحرير أرضهم. كما برهن الفلسطينيون علي انهم بدوافع الارث التاريخي للحروب هم من حملوا مسئوليات الدفاع مهما كانت النتائج معللين ذلك بأن هذه الانتهاجات ستقلب طاولة المفاوضات علي التفاوض المشروط وتضع العرب امام انفسهم وتطل علي العالم كنافذة مفتوحة علي حقيقة ما يجري، الا ان النهاية كانت غير ذلك فكادت حرب الشهادة ان تغلق مفتاح الحل الي الابد الذي تمخضت عنه خسائر مادية ومعنوية كبيرة للطرفين وكذلك للوسطاء ايضا فازداد العنف من الطرفين والتشهير الاعلامي الذي بدأ يأخذ دوره كنقطة عبور الي اسرائيل كدولة فوق القانون صار هاجس السلطة في تل ابيب والبيت الابيض لان دراما الموت لا تستطيع ان تسعف اولمرت ولا تحسن وجهه وهنا صار لابد من البحث عن خشبة انقاذ في المحيط المتلاطم ولذلك جاءت توصيات مصر وتدخلها الاخير بعد اشتداد حالات العنف المتبادل بين حركتي فتح وحماس. أقول جاء التدخل المصري الرصين كحل ايجابي ينقذ الفلسطينيين قبل الاسرائيليين ويورط مروجي العنف في ظروفهم الاكثر تفاقما لتكون هدنة يفرض بعدها الواقع الجديد حلولا ربما تكون جديدة.. صحيح ان الفلسطينيين بجميع فصائلهم عانوا معاناة قاهرة لا يقوي عليها الا اصحاب الارادات الميتافيزيقية وسط جفاء عربي، لكن الفلسطينيين انفسهم اعتادوا هذه الاساليب. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة من يهزم الآخر الفلسطينيون بشهادة شبابهم الذين لم تتجاوز اعمارهم 15 عاما وتخرج امهاتهم علي تابوت الموت وهن فرحات لا يرفضن اللاعودة الي الديار سواء بانتحارهم داخل اسرائيل أو بالقتال بينهم وبين انفسهم ام الاسرائيليون القابعون في آلاتهم ومنازلهم وبيوتهم ومكاتبهم لا يدرون من اي ناحية يمطر عليهم شباب الموت قنابلهم وتفجيراتهم وبعدها ينقض الجيش بهمجية ووحشية. وظل الاسرائيليون في حالة مطاردة دائمة من اشباح تسكن شوارعهم وبيوتهم ومشاعرهم والاجابة هي نعم لقد خسر الطرفان وسيخسران، فالعمليات الاستشهادية ليست اعلي درجات التضحية للشباب الفلسطيني بل أدناها واسرائيل التي تحرس الجو والبحر وكل ما يجري علي الارض الفلسطينية لا تستطيع ان تقمع هذا العنف أو تكشفه بوسائلها التكنولوجية، لذلك تبقي قوي الحرب بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي رمزا لمجانين العالم الجديد الذين يعتقدون ان هذا الاسلوب هو الذريعة الوحيدة لاجبار اي طرف من الطرفين علي الرجوع.. واذا كانت اسرائيل تركز ففي حربها مع الفلسطينيين علي قضية الامن رغم احتكارها للسيطرة علي الاتصالات والفضاء الفلسطيني ومنافذ الحدود والمراقبة الدائمة لما يجري داخل الأقبية والدهاليز الا انها لم تستطع ان تتلافي الهجوم الفلسطيني الشرعي والباعث للحقوق الوطنية المعترف بها دوليا. فالنار التي اوشكت علي احراق المنطقة وتعطيل تنميتها واهدار حقوق انسانها لن يطفئها الحديث عن حرب تحريرية طويلة ولكن يطفئها رسم خط سلامي فوق الرمال لا يجوز لاحد ان يتجاوزه. فالعالم لا يتعامل مع شعارات ولا يقرأ الطالع لمعرفة نوايا الخصوم وانما هو يحترم ويتعامل مع ارادات واضحة وقاطعة ومعلنة وذات مصداقية عملية فاذا كانت حكومة حماس حقا تريد تجنب مخاطر حرب اقليمية شاملة فعليها ان تستعد لدفع ضريبة السلام فالاستعداد للسلام هو اقصر الطرق لمنع الحرب، فتأسيسا علي ذلك يجب دفع قوي السلام علي الجانبين ليوجدا بديلا لقوي الحرب لاحلال رغبة الحياة والديمومة علي رغبة الشهادة والانتحار فالحديث عن الحرب لا يجري فيه الحديث عن المكاسب، فهي الانتحار الضار والطرف الذي يراها الطريق الوحيد امام المعايير السياسية المغلقة هو تفعيل لمنطق البطش كصورة سيئة لاستمرار الحياة. نعم يشعر الفلسطينيون بالمرارة ويتألمون من الحرب ولكن استفزاز همجية الاسرائيليين ووضعهم في خندق الرعب يؤكد ان الحصار الاقتصادي والمادي المفروض علي الفلسطينيين انعكس الي الحصار النفسي للاسرائيليين وعندما يطول الحصار تطول المأساة. ان العنف هو عود الثقاب في مستودع الغاز، خاصة ولو كان بين الفلسطينيين انفسهم واسرائيل ستجد نفسها في حالة اندفاع الي استخدام السلاح كمخرج لازماتها مثلما تري قوي الحرب الفلسطينية في الحرب مخرجا لازماتها الداخلية وتتشابك مصالح الطرفين جنبا لجنب ولكن ستكون النتائج مجهولة لان الحرب سوف تلغي أي مكاسب للطرفين وستسيل الدماء في محيط المياه والنفط ودماء الصحراء. ليس الامر مزحة لان المطلوب ليس فقط انسحاب الاسرائيليين من قطاع غزة وغيره من الاراضي الفلسطينية ولكن قراءة جدية وواضحة لملابسات التاريخ والواقع والجغرافيا برمتها دون فصل قضية واخري أو الاسترحام علي وطن تائه ضائع أو الارتكان لمحاكمة التاريخ والاسترحام علي موتي الطرفين والاستخفاف بقيمة السلام وثقافته، فيجب تجاوز الخندق الضيق وما يفجره من اتربة في غياهب التاريخ لازالة اسرائيل القائمة علي خطأ تاريخي، لقد زال الخطأ وزال التاريخ وبقيت الجغرافيا وعلي الجميع ادراك هذه التحولات حتي لا تصبح اسرائيل هي الجغرافيا وفلسطين هي التاريخ. ان كل اختراع للحرب من اي طرف سيقابله فشل في التنفيذ من الطرف الآخر ليستمر مسلسل العنف، وفي هذا الدولاب المتحرك لن تنفع وسائل التهدئة والوعود والمراوغات السياسية لذا يجب القضاء علي الطرف الذي يسعي الي استمرار الازمة والصراع وحتي لا تكون مقولة جولدا مائير "لو لم يكن جورج حبش موجودا لصنعناه" هي العنوان وحتي لا تستبدل المقولة عند أولمرت ب "لولا حماس لصنعناها".