قبل أسبوعين تدخل 20 مواطنا متضامنين مع احد المحامين في دعوي امام القضاء الاداري ضد قرار محافظ القاهرة بضم رسوم النظافة إلي فاتورة استهلاك الكهرباء، وهذه ليست الدعوي الاولي بهذا الشأن، ويبدو انها لن تكون الأخيرة، فقد حصل العديد من المواطنين قبل ذلك علي احكام قضائية بوقف قرارات المحافظين بجمع الرسوم علي فواتير الكهرباء، إلا ان هذه الاحكام لم تكن كافية للحكومة واجهزتها التنفيذية لانهاء الموضوع، والبحث عن صيغة أخري غير مخالفة لتحصيل هذه الأموال وبدأت عملية دوران داخل حلقة مفرغة استخدمت فيها الحكومة كل خبراتها البيروقراطية وامكانيات جهازها الاداري، ولم يفوت محاموها أي حيلة قانونية حتي وان كانت غير منضبطة لاستمرار المسلسل وتعطيل امر القضايا امام المحكمة حيناً ثم الالتفاف علي الاحكام القضائية النهائية احيانا اخري. وقد تنوعت حيل الحكومة فمرة تصدر القرار وبعد حكم القضاء بوقف تنفيذه تصدره في محافظة اخري، أو تصدره مرة ثانية في نفس المحافظة ولكن باختلاف طفيف في صيغته للهروب من الحكم القضائي الذي يسير علي القرار الذي صدر من اجله فقط، ولا يؤخذ به علي أي قرار جديد، هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد ذهب محامو الدولة إلي حيلة أخري اكثر دهاء عندما طالبوا بأن الحكم الصادر بوقف قرار أي جهة ادارية ينفذ لصالح رافع الدعوي فقط، ولا ينسحب علي باقي المواطنين سواء في نفس المحافظة أو غيرها، وهو ما يعني اننا نحتاج إلي 70 مليون حكم قضائي للمصريين كلهم كي يستطيعوا الهرب من سطوة الحكومة والزامهم بدفع رسوم بطريقة غير قانونية. الغريب ان نشطاء المجتمع المدني لا يرون مخرجاً لهذه المشكلة مادامت الحكومة علي موقفها هذا، وقالوا ان الحكومة تعاني من حالة افلاس واحتياج شديد للاموال وهو ما يدفعها لاتباع كل السبل لجمع اكبر قدر من اموال المواطنين حتي وان كان بطريق غير الطريق القانوني، ووصف النشطاء سياسات الحكومة بالعادية وقالوا انها اعتادت خلال السنوات الاخيرة علي عدم احترام القانون وعدم تنفيذ احكام القضاء، وبات من الطبيعي ان نري اغلب وزراء مصر مطلوب محاكمتهم جنائياً بتهمة عدم تنفيذ احكام قضائية بموجب المادة 123 عقوبات، واكد النشطاء ان مايحدث الآن في قضية رسوم النظافة حلقة جديدة في مسلسل استهانة الحكومة بالقضاء واحكامه ويعد صورة واضحة لضياع هيبة هذه المؤسسة واستهانة الحكومة ايضاً بفكرة دولة المؤسسات وسيادة القانون. يري ناصر أمين مدير المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة ان هذا النهج الحكومي ليس وليد اللحظة، وان ممارستها له في قضية رسوم النظافة لم تكن الأولي، ويقول لقد بدأت الحكومة هذا الاسلوب منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي وبالتحديد في ظل تولي الرزاز وزارة المالية عندما بدأ اسلوب جمع الاموال من المواطنين بطرق مختلفة لصالح الحكومة وهو ما تطور لما يمكن ان يطلق عليه اليوم "السرقة بالقانون" وهذا هو ما عبرت عنه المحكمة الدستورية العليا في عهد المستشار عوض المر عام 1988 عندما نظرت قضية تحصيل ضريبة العاملين بالخارج. يقول أمين ان قضية رسوم النظافة تعد استمرارا لهذا النهج الحكومي رغم مخالفة ذلك للدستور الذي ينص صراحة علي "لا رسوم أو ضرائب إلا بقانون" ويقول ان ما يحدث الآن يعكس الصراع الذي تخوضه الحكومة ضد المواطنين لجمع اكبر قدر من الاموال ملتفة في ذلك علي أحكام القضاء الاداري. ارجع أمين هذا النهج للحكومة إلي عدة اسباب أولها ما سماه تغيير مسار اداء الدولة لأول مرة في تاريخها الحديث في المنزاعات التي تنشأ بينها وبين المواطنين، وقال في الماضي كانت الدولة تحترم النزاع القضائي واحكام المحكمة واحياناً تساعد المحامين الحاصلين علي احكام ضدها علي تنفيذها، وهو ما جعله يطلق عليها "الخصم الشريف" أما في السنوات العشر الأخيرة فقد حدث تحول كبير في اداء الدولة استخدمت بموجبه كل الاساليب والألاعيب القانونية والمماطلات لتعطيل احكام القضاء والمماطلة في الفصل في الدعوي، وقال عندما تقرر الدولة ممارسة هذه الأفعال فإن اثر ذلك يكون كبيرا عنه عندما يقوم بهذه الممارسة محامون عاديون، لأن الدولة تمتلك امكانيات كبيرة وسيطرة علي الجهات الادارية تمكنها من تعطيل الاحكام، والسبب الثاني ان الدولة في الماضي كانت تحافظ علي هيبتها امام المحاكم ولم تكن تريد ان تضع نفسها في قفص الاتهام امام المحاكم الجنائية بتهمة عدم تنفيذ الاحكام وفقاً للمادة 123 عقوبات، وكان مجرد اقامة دعوي بهذا الشأن ضد مسئولي الدولة تهز اركانها، أما الآن فقد استمرأت الدولة مثل هذا النوع من الاحكام ولم تعد وزارة واحدة لم تقم ضد وزيرها ومسئوليها جنح عدم تنفيذ احكام قضائية. يلتقط حسن يوسف رئيس مجلس ادارة جمعية شموع الخيط ويقول ان عدم احترام القضاء اصبح سلوكا حكوميا معتادا ومناخا عاما في مصر، وقال عندما حصل المواطنون علي احكام قضائية في البداية تلغي قرارات ضم رسوم النظافة إلي فاتورة استهلاك الكهرباء تحايل رئيس الوزراء علي ذلك بإصدار قانون يعطي الدولة الحق في تحصيل هذه الرسوم إلا انه لم ينص علي تحصيلها مع فاتورة الكهرباء، ويقول لا تزال المشكلة غير قانونية قائمة وهي ربط رسوم النظافة بفاتورة الكهرباء. قال ان القانون نص علي تحصيل رسوم النظافة علي أن تحدد الحكومة اسلوب تحصيلها وفصل القانون بين جمع هذه الرسوم وتحصيل قيمة استهلاك الكهرباء وهو ما يؤكد ان اجراءات الحكومة رغم قانونها الجديد مخالفة وباطلة. يري أن الدولة تخالف القانون واحكام القضاء معتمدة علي قوتها مع المواطنين وسطوتها عليهم، ودلل علي ذلك بقرار رئيس الوزراء لوزير الكهرباء وشركة الكهرباء بقطع التيار الكهربائي عن من لم يدفعوا قيمة الإستهلاك ورسوم النظافه معاًوقال ان من غرائب الامور ان بعض المواطنين يدفعون رسوم النظافة ورغم ذلك لاتوجد نظافة حقيقية في احيائهم، وهو ما يعد ابتزازا من الدولة للمواطنين مستخدمة قوتها وسطوتها. ارجع محمد زارع ممارسات الدولة إلي ما تعانيه من أزمة مالية كبيرة تدفعها إلي محاولة جمع اكبر قدر من الاموال لزيادة مواردها حتي وان كان ذلك علي حساب المواطنين وبالمخالفة للقانون واهمال احكام القضاء، وقال ان الدولة عندما تكون خصما في قضية فإنها تستخدم الحيل القانونية غير المنضبطة للمماطلة بدلاً من حل المشكلة بشكل قانوني سليم، وقال ان محامي الدولة يتقدمون بطعون علي الاحكام القضائية اما أمام دائرة غير مختصة وهم يعلمون ذلك أو بشكل به اخطاء يعلمونها ايضا ويتعمدون ذلك لاطالة أمد القضية وتعطيل العدالة، وقال هذا بالضبط ما ينطبق علي موضوع رسوم النظافة والذي تتعامل فيه الدولة معتمدة اسلوب النفس الطويل، فقرار الادارة يصدر فيطعن عليه المواطنون ويحصلون علي حكم بوقف تنفيذه فتطعن الدولة مرة ثانية؛ أو تصدر قراراً جديداً لاينسحب عليه حكم المحكمة القاضي بوقف تنفيذ الاول، وتستمر الاحداث داخل نفس الحلقة المفرغة املاً من الحكومة في الحصول علي حكم يمكنها من تنفيذ مأربها. استبعد زارع ان تحصل الدولة في يوم علي حكم قضائي يلبي لها ما ترنو إليه ويقضي بصحة تحصيل رسوم النظافة مع قيمة استهلاك الكهرباء، وقال ان الاجدي البحث عن طرق فاعلة لحل المشكلة بدلاً من استمرارها معلقة. من جانبه يقول جمال عبدالعزيز مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان إن جميع الجهات التنفيذية في مصر اصبحت معتادة علي مخالفة احكام القضاء وعدم تنفيذ احكامه، وقال هناك مصلحة مالية للمحافظات التي تصدر مثل هذه القرارات وهي كغيرها من الجهات الادارية والتنفيذية تماطل ولا تأبه بالقضاء واحكامه، وقال لو ان في مصر مجلس شعب حقيقيا ومجالس شعبية محلية حقيقية كانوا يسألون محافظا يصدر قرارا كهذا أو تعمد مخالفة القانون واحكام القضاء. وصف عدم تنفيذ الاحكام القضائية بأنه عادة مصرية وقال انها بدأت منذ فترة واستفحلت في التسعينيات وبداية هذا القرن يري ان هذه القضية اصبحت في يد رئيس الجمهورية، وقال في ظل استمرار الاجهزة الحكومية علي نهجها وتواطؤ وزارة الداخلية وهي المنوط بها تنفيذ احكام القضاء. وقال ان الوضع لايبدو له في الأفق حلاً حقيقياً ففي كل مرة تصدر احدي المحافظات قرارا بضم رسوم النظافة إلي فاتورة استهلاك الكهرباء يصدر حكم قضائي بعدم صحة القرار ووقف تنفيذه فتعود نفس المحافظة أو غيرها إلي اصدار قرار جديد فيعتبر الحكم القضائي كأن لم يكن. اما محمود المنسي المدير التنفيذي لمركز اولاد الأرض لحقوق الانسان فيقول ان الحكومة دأبت علي عدم تنفيذ الاحكام القضائية ويقول ان نظرة سريعة تطلعنا علي ان معظم الاحكام التي صدرت للمواطنين لم تنفذ، ومن يرد تنفيذ حكم لابد ان يكون له "وساطة". يري ان رسوم النظافة ليست الوحيدة التي تحاول الدولة فرضها علي المواطنين، ويقول هناك رسوم علي المواطنين القاطنين في منازل علي اراضي الدولة منذ عشرات السنين، وما تجمعه هيئة الاوقاف والاستصلاح الزراعي. يقول محمد الاشقر رئيس الجمعية الشعبية لحماية المواطن من الفساد والجباية ليست هذه المسألة فقط التي تمتنع فيها الحكومة عن تنفيذ الاحكام وانما في جميع الاحكام التي تصدر ضدها، وفي قضية النظافة حصلنا علي اكثر من حكم بوقف قرارات المحافظين ولكن الحكومة لا تستجيب، وفي اول المسألة حصلنا علي حكم عام 2004 فالتفت عليه الحكومة بإقرار قانون جديد وقد قمنا برفع دعوي قضائية جديدة ضد هذا القانون.