بعد مضي تسعة أشهر علي غزوه للعراق، كان الرئيس بوش قد أخبر صحفياً أجري معه حواراً وقتها، أنه لم يلجأ إلي والده بوش الأب، طلباً لعونه أو مساعدته في تلك الحرب. وجاء رده الحرفي "فلي أب أعلي أستمد منه القوة والعون". لكن وبعد مضي ما يقارب الثلاثة أعوام من ذلك التاريخ، فربما اضطر بوش للجوء إلي "آبائه الدنيويين" أيضاً. فمع سوء الاتجاه الذي مضت فيه حربه علي العراق، وعلي إثر استيلاء خصومه "الديمقراطيين" علي الكونجرس، فربما لا يجد بوش خياراً آخر سوي الاستعانة بكبار القادة المحاربين من إدارة أبيه، علي أمل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من إدارته، التي طالما كافح من أجل الإبقاء علي استقلاليتها بعيداً عن تأثيرات عهد أبيه الرئاسي. فما هو إلا يوم واحد من معاناة الصدمة الانتخابية التي لحقت به مؤخراً، حتي أقال وزير دفاعه دونالد رامسفيلد، وهو أحد قدامي المنافسين لأبيه، ليعين بدلاً منه "روبرت جيتس"، مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية السابق، في عهد رئاسة جورج بوش الأب. وفي الوقت ذاته، علق بوش الابن آمالاً عريضة علي جيمس بيكر الثالث، وهو كذلك أحد الأصدقاء القدامي لوالده، عسي أن تشير اللجنة التي يترأسها بشأن دراسة مسار الحرب في العراق، بما يفيد في تصحيح ذلك المسار، وبالتالي إنقاذ الإدارة من مأزقها الحالي. وكما علق الكولونيل إف. دبليو. سمولين، وهو أحد المساعدين المقربين من وزير الخارجية السابق، كولن باول، فإن الذي يبدو الآن علي القرارات التي يتخذها الرئيس بوش، هو أنها تبدو وكأنها تصدر ممهورة بختم الرئيس بوش "الحادي والأربعين" وهو تسلسل الرئيس الأسبق بوش الأب، وفقاً لترتيبه بين الرؤساء الأمريكيين. غير أن السؤال الذي يبقي عالقاً علي حد قول الكولونيل سمولين، المدير الحالي لدراسات الأمن القومي بجامعة "سيراكوز" هو ما إذا كانت هذه التغييرات الرئاسية الجارية حقيقية، أم أنها مجرد ردة فعل عابرة علي صدمة ما بعد الانتخابات النصفية؟ وعلي أية حال، فإن التغييرات الجوهرية التي طرأت علي الكونجرس، تجعل من الصعب جداً علي هذه التغييرات الرئاسية أن تكون ذات طابع شكلي فحسب. يذكر أن العلاقة ما بين بوش الأب وبوش الابن، قد ظلت دائماً مثار تعليق وتكهنات، طوال السنوات الست الماضية. والواضح أن الابن قد رفض العيش تحت جلباب أبيه، وسعي إلي اقتفاء أثر إدارة الرئيس الأسبق ريجان، بدلاً من اقتفاء خطي أبيه. ولذلك فقد اتسم اختياره لطاقمه، وكذلك السياسات التي يقوم عليها هذا الاختيار، بالتعارض الدائم مع تلك التي كان يتبعها أبوه. وإذا كان جورج بوش الأب، أباً روحياً للمدرسة الواقعية في السياسات الخارجية، وهي مدرسة رسمت فلسفتها إلي السيطرة علي عالم قابل للانفجار والاحتراق الداخلي، فقد اجترح بوش الابن سياسات جديدة سكها "المحافظون الجدد"، الذين أرادوا إعادة تشكيل العالم، ونشر الديمقراطية في كافة أركانه وبقاعه. وعليه فقد تتالت خطب الرئيس بوش الابن، الواحدة إثر الأخري، في هجاء إذعان الإدارات السابقة، ورضوخها لما وصفه بالاستبداد المستشري في الشرق الأوسط، بزعم أن استقرار تلك المنطقة، يعادل بسط الأمن فيها، وهي الفرضية التي لشد ما انفجرت علي نحو مأساوي في الحادي عشر من سبتمبر 2001، علي حد قوله. وفي المقابل فقد نقل عن الرئيس الأسبق بوش الأب، تشككه في الطريقة التي شنت بها الحرب الأخيرة علي العراق في عام 2003. وربما تعززت صحة تلك الشكوك، بما نسب من تعليقات سابقة لشن الحرب مباشرة، علي لسان كل من "جيمس بيكر"، و"برينت سكوكروفت"، مستشار الأمن القومي السابق لجورج بوش الأب، وأحد أصدقائه القدامي. ويضاف إلي ذلك أن "سكوكروفت" قد اختلف تماماً مع إدارة بوش الحالية، وأعفي من مهامه ومسئولياته السابقة في اللجنة الاستشارية الرئاسية للاستخبارات الخارجية. علي أن أية تعليقات عامة حول وجود خلاف أو صدع في جدار العلاقة بين الرئيسين بوش الابن والأب، تثير غضب كليهما. ومن هنا فقد جاء تعليقهما علي ما ورد علي لسان بوش الابن للصحفي بوب وودورد من أن "لي أباً أعلي في السماء أستمد منه القوة والعون.. الخ" أنه جري تحميله بأكثر مما يحتمل من تأويلات ومعانٍ ليست مقصودة. كما يلاحظ أن الكثيرين ممن عملوا في إدارة بوش الابن، كانوا أفراداً في طاقم إدارة بوش الأب، بمن فيهم نائب الرئيس الحالي ديك تشيني، ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، وكذلك "ستيفن هادلي"، مستشار بوش الابن للأمن القومي. وفي هذا ما يهزم قول القائلين بوجود خصومة بين معسكرين متعارضين في عائلة بوش. لكن وحتي في حال استبعادنا لوجود خصومة بهذا الحجم داخل العائلة، فإن الذي لاشك فيه، هو وجود نوع من التنافس العائلي، يمكن القول إنه ظل سمة خفية وغير معلنة من سمات هذه الإدارة. وما هذا الاستنجاد الأخير بأفراد يمثلون "المؤسسة الجمهورية" القديمة، من أمثال روبرت جيتس وجيمس بيكر سواء كانت له علاقة برابط أبوي أم لم تكن سوي مؤشر علي اتجاه جديد لدي الإدارة الحالية، لتبني المزيد من البراجماتية في صنع السياسات. وكما جاء في تعليق أحد كبار مستشاري الإدارة الحالية، فإنه ما من أحد قرر هنا فجأة، استدعاء أفراد من "الطاقم الجمهوري القديم". فالذي حدث علي حد قوله هو استجابة طبيعية للفشل الناشئ عن خطأ الاستشارات الرئاسية السابقة. ذلك أنه لم يعد في مقدور أحد اليوم، مجرد المجادلة في خطأ تلك الاستشارات، التي لم تسفر إلا عن كل هذه الفوضي التي نحن فيها الآن. ومن ناحيته علق "جيمس جي كارافانو"، اختصاصي الأمن بمؤسسة "هيرتدج"، بالقول إن بروز شخصيتي روبرت جيتس وجيمس بيكر، إنما يشير إلي مساعي الإدارة لمد يدها ل"الديمقراطيين"، والاتجاه نحو التعاون معهم من أجل التوصل إلي رؤية ثنائية حزبية لما يمكن فعله في العراق. والأهم من ذلك أنه يعد مؤشراً علي جدية الرئيس تجاه تنحية الخلافات الحزبية جانباً، وإبعادها عن طاولة إدارة شئون الدولة. ووصف "كارافانو" كلتا الشخصيتين بأنهما محل ثقة، وأنهما لايتنسبان إلي انتمائهما السياسي الصارخ ذات يوم. أما "دنيس روس"، المبعوث الخاص للرئيس الأسبق جورج بوش الأب، لمنطقة الشرق الأوسط، فجاء علي لسانه القول إن ظهور "روبرت جيتس"، يعد مؤشراً علي تغيير مهم في سياسات الإدارة الحالية. والسبب أن "جيتس" ينتمي إلي تلك المدرسة الواقعية، التي تعرف جيداً كيف ترسم السياسات الخارجية