رب مسئول لا يجني من صومه غير الجوع والعطش!! لا أعرف لماذا هجمت تلك الفكرة علي رأسي، ولماذا المسئول بالذات.. ربما لأنه مسئول بكل ما تحمله الكلمة من معني.. فهو مسئول بشكل أو بآخر في موقعه الوظيفي، لكنه لا يؤدي دوره كما ينبغي، أو لأنه مسئول عما لحق بالناس من أضرار بسبب وجوده في هذه الوظيفة، فيكون قد قصر في أداء واجبه أو أهمل في ذلك، وربما يكون قد تعمد الإضرار بهم بعد أن أعطي ضميره إجازة دائمة بمرتب مضاعف.. المهم أنه في النهاية مسئول! تخاريف صيام رحت أجذب خيوطها، فماذا وجدت؟ سألت نفسي ما هو الصيام؟ والإجابة: الصوم هو التعبد لله سبحانه وتعالي بترك المفطرات من طلوع الفجر إلي غروب الشمس. معني ذلك أن المسئولين من عينة المسئول الذي تحدثنا عنه إذا صام فإنه لا يجني من صومه غير الجوع والعطش، لأنه إذا كان قد امتنع عن المفطرات من الطعام والشراب، فإنه لم يتق الله في الناس الذي هو مسئول عنهم.. فقد زور في الانتخابات وأعطي الفرصة لمن لا يستحق وحرم منها من يستحقها.. وزور في قرعة الإسكان فأعطي المساكن للتجار وترك المضارين ينامون في العراء والإيواء. ووارب ضميره فغش الدواء، والغذاء والبناء، وتسبب في إيذاء الناس في صحتهم وابدانهم وأرواحهم دون أن "تنقع عليه غدة الضمير" فلا نجد مسئولا واحدا يستقيل من منصبه لأنه استورد غذاءً فاسدًا، أو إغرق البلد بالمبيدات والهرمونات المسرطنة، أو تعاقد علي صفقات أتوبيسات وقطارات غير مطابقة إلا لمواصفات ذمته المهترئة.. ولم نجده في يوم من أيام الشهر الفضيل قد استيقظ ضميره بعد أن امتلأ فمه بعبارة اللهم إني صائم، فتوجه علي الفور إلي مقر مجلس الوزراء وكتب استقالة مسببة يقول فيها أنا حرامي وأريد ان أريح ضميري وأستريح، فمأكلي ومشربي وملبسي من حرام، وما نبت من حرام فالنار أولي به! وحتي يطمئن كل المسئولين من حوله إلي أنه لن يهدم المعبد علي كل من فيه يقول لهم ويتعهد بأنه سيبقي علي الطابق مستورا، ولن ينزع ورقة التوت إلا عن نفسه علّ الله يستره ويصفح عنه، لأنه لم يعد قادرا علي الاستمرار في مسيرة الانفصام النفسي أكثر من هذا، فهو علي مدار ساعات الليل والنهار يرتدي ألف قناع وقناع، وكفي أنه امام كل الناس ملاك طاهر وله أجنحة بينما هو في الحقيقة الوكيل الوحيد المعتمد لإبليس! ويشرح لهم المزيد من الأسباب التي دفعته للإستقالة علهم يوافقون: عندما نويت الصيام فجر هذا اليوم سمعت الشيخ في التليفزيون يقول في سورة البقرة: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون". وراح الرجل يشرح معي "لعلكم تتقون"، فوجدتني أتفه من جناح بعوضة ليس لي في ميزان الحسنات خردلة.. فقد قال في شرح التقوي وحكمة الصوم: إن النفس إذا امتنعت عن الحلال طمعا في مرضاة الله تعالي وخوفا من عقابه فأولي أن تنقاد للامتناع عن الحرام. وأن الانسان إذا جاع بطنه اندفع جوع كثير من حواسه، فإذا شبع بطنه جاع لسانه وعينه وفرجه، فالصيام يؤدي إلي قهر الشيطان وكسر الشهوة وحفظ الجوارح. وأن الصائم إذا ذاق ألم الجوع أحس بحال الفقراء فرحمهم وأعطاهم ما يسد جوعتهم، إذ ليس الخير كالمعاينة، ولا يعلم الراكب مشقة الراجل إلا إذا ترجل. وأن الصيام يربي الإرادة علي اجتناب الهوي والبعد عن المعاصي إذ فيه قهر للطبع وفطم للنفس عن مألوفاتها. وفيه فرصة عظيمة للدعاة إلي الله سبحانه، فهذه أفئدة الناس تهوي إلي المساجد ومنهم من يدخله لأول مرة، ومنهم من لم يدخله منذ زمن بعيد وهم في حالة رقة نادرة، فلابد من انتهاز الفرصة بالمواعظ والدروس والكلمات النافعة مع التعاون. ويراجع المسئول نفسه: هل تنطبق عليه أي من شروط ومواصفات التقوي؟ ويمصمص شفتيه وقد اسود وجهه وهو يقول لنفسه: نعم امتنعت نفسي عن الحلال ولكن لأملأ بطني وجيبي وحسابي في البنك بالحرام دون أن أتوقف للحظة وأسأل نفسي عن سر شهوتي وجوعي للحرام والنار التي أملأ بها بطني وبطن أولادي. ثم يتساءل: وكيف سيؤدي الصيام معي إلي قهر الشيطان وكسر الشهوة وحفظ الجوارح، وأنا حليف الشيطان وذراعه الأيمن. يضيف: وهل أنا بحاجة إلي أن أذوق الجوع حتي أحس بحال الفقراء بأرحمهم.. أنا بدون صيام أحسست بهم وبآلامهم ولكن لم أرحمهم، لأنني أحد المتسببين في فقرهم لأنني نهبت حقوقهم واستحللتها لنفسي ولم أرحم ظروفهم. ثم يختتم حواره مع نفسه قائلاً: نعم الصيام يربي الارادة علي اجتناب الهوي إذ فيه قهر للطبع وفطم للنفس عن مألوفاتها.. ولكن الصوم لابد أن يفلح بالنسبة لي أولا في أن يربي إرادتي علي أن أجرد نفسي من كل ما اكتسبته من حرام، فأرد الحقوق إلي اصحابها وأغسل ثوبي من الدنس وأعود من جديد علي فيض الكريم ويا مولاي كما خلقتني. ولكن بقيت عنده أم المشاكل.. كيف سيرد الحقوق إلي أصحابها وهي تخص الملايين من المصريين الذين نهب حقوقهم فهو لا يعرفهم بالأسم، ولكن يدرك أنه ظلمهم وقهرهم وأخرهم ونهبهم بالمعني والاستنتاج، وبالتالي فالأموال التي معه لمن سيردها.. وحتي لو كان يعرف أصحابها، فهل من المعقول أنه سيدور بطريقة الكعب الدائر علي بيوتهم ويسلمهم ما نهب أو يعوضهم عما لحقهم من ضرر بسببه. ودارت في رأسه فكرة، يذهب إلي إحدي دور الأيتام ويضع فيها كل ثروته الحرام.. ولكنه راح يسأل نفسه إذا كنت أشفقت علي نفسي من الحرام وخشيت علي أولادي من تبعاته، فكيف سأربي به الأيتام وأطعمهم منه؟! حكاية محيرة صدعت رأسه وزلزلت نفسه وكيانه، وكأن لسان حاله يقول: بالحرام كنت مستريحا وضميري يغط في نوم عميق.. الآن والآن وأنا افكر في أن أسلك طريق الحلال أجده مكتنفا بالأشواك والمشاكل. فجأة ظهرت في رأسه مشكلة جديدة: إذا أراد بالفعل أن يتخلص من أعبائه ويخفف من أوزاره وراح ينهي علاقته بالحرام، فكأنه يقدم بلاغا رسميا ضده يقول فيه للجميع: حاكموني أنا مجرم وقاتل وسارق، وبالتالي يكون، قد فتح علي نفسه بوابة جهنم، وهنا سينطبق عليه المثل "ماشافهوش وهو بيسرق شافوه وهو بيسلم النهيبة"! ليس هذا فقط بل أن شركاءه في جرائمه هل سيسمحون له بهذا السلوك الآبله والعبيط الذي سيضع الكلبشات في أيديهم وهم جميعا أسماء براقة لها وزنها وقيمتها في المجتمع، ومعروف عنهم الطهر والعفاف والشرف والفضيلة والأيادي البيضاء، وبالتالي إذا فعل فعلته الشنعاء تلك فقد اقترب من المنطقة المحرمة ولابد من تصفيته والتخلص منه قبل أن يدخلها!! تعب من التفكير في سكة الحلال.. طريق الحرام أسهل أو اكثر أمانا ومفروش بالورود والرياحين.. وإذا كان لن يجني من صومه إلا الجوع والعطش فهذا أرحم من أن يجني بالحلال كل تلك الكوارث التي ستنهال علي رأسه!!