في سبتمبر الماضي، وقف الرئيس بوش في "نيوأورليانز"، وقد أضيئت الأنوار لأول مرة عقب إعصار "كاترينا"، ليعلن أن أمريكا ستنفذ في نيوأورليانز: "أكبر جهود لإعادة الإعمار شهدها العالم علي الإطلاق"، وبعد أن أدلي بهذا التصريح غادر المكان، لتنطفئ الأنوار مرة ثانية. أما ما حدث بعد ذلك، فقد كان تكراراً لما حدث عندما طلب بوش من الكونجرس تخصيص 18 مليار دولار لجهود إعادة الإعمار في العراق. ففي ذلك الوقت، زار بعض أعضاء الكونجرس بغداد ثم عادوا ليطنِبوا في الحديث عن كل الأشياء الرائعة التي قمنا بها هناك، مثل إعادة طلاء المدارس، ولكن عندما أغلقت سلطة الائتلاف المؤقتة المنوط بها إدارة العراق في ذلك الوقت أبوابها بعد تسعة أشهر (وبعد تخصيص الكونجرس للمبلغ)، تبين أن 2 في المائة فقط من مبلغ ال18 مليار دولار هي التي تم إنفاقها، وأن حفنة قليلة للغاية من المشاريع التي كان يفترض أنها مُوِّلت بتلك الأموال هي التي بدأت بالكاد. وفي النهاية فشلت أمريكا في إجراء أبسط الإصلاحات في البنية التحتية للعراق، إلي درجة أن بغداد العاصمة لا تحصل الآن علي التيار الكهربائي سوي لسبع ساعات فقط يومياً. أما عن الوضع الآن علي امتداد ساحل خليج المكسيك حيث تقع "نيوأورليانز"، فإن إدارة بوش يحلو لها الحديث عن الأموال التي خصصتها للمنطقة، وتخطط لشن حملة علاقات عامة كاسحة لإقناع أمريكا بأنها تبذل قصاري جهدها في مساعدة ضحايا إعصار "كاترينا"، ولكنها لا تفعل شيئاً يذكر في الواقع. وسيعرف سكان "نيوأوريانز" بمرور الوقت -كما عرف العراقيون من قبلهم- أن تخصيص الأموال شيء، واستخدامها بالفعل في إعادة التعمير شيء آخر، بدليل أن الإدارة لم تقم حتي الآن بشيء من أجل الوفاء بالوعود التي قطعتها علي نفسها العام الماضي. صحيح أن هناك عشرات المليارات من الدولارات قد أُنفقت بالفعل علي جهود الإغاثة العاجلة، وعمليات إزالة الأنقاض، إلا أن ما يزيد علي ثلث كميات الحطام الناتج عن إعصار "كاترينا" لم تتم إزالته حتي لحظتنا هذه. علاوة علي أن تجاوز عمليات التنظيف، والبدء في جهود إعادة الإعمار الفعلية لم يبدأ سوي مؤخراً. فنحن نجد مثلاً أنه علي الرغم من قيام الكونجرس بتخصيص 17 مليار دولار لوزارة الإسكان والتنمية الحضرية، من أجل استخدامها في جهود الإغاثة وخصوصاً لتقديم إعانات نقدية لمُلاك المباني في المقام الأول، فإن الوزارة لم تنفق من هذا المبلغ سوي 100 مليون دولار فقط حتي الأسبوع الماضي. كما أن أول دفعة من ملاك المباني في "لويزيانا" لم تستلم شيكات بموجب برنامج ممول فيدرالياً سوي منذ ثلاثة أيام فقط، علاوة علي أن ولاية المسيسيبي التي يوجد لديها برنامج مماثل لم ترسل سوي عدد لا يتجاوز عشرين شيكاً للمستحقين حتي الآن. أما الحكومات المحلية التي وُعدت بمساعدات في صورة تسهيلات لإعادة البناء، مثل إقامة محطات سكك حديد ونظم للصرف الصحي، فإن نصيبها كان أفضل قليلاً من ناحية الحصول علي تلك المساعدات. هناك مقالة نشرت مؤخراً في "ناشيونال جورنال" تصف الموقف العبثي الذي وجدت فيه المدن المدمرة، التي تسعي للحصول علي أموال فيدرالية نفسها فيه، عندما طلب منها أن تقفز عبر حلقة كما البهلوانات، حتي يسمح لها بإنفاق الأموال التي لا تمتلكها علي أشياء مثل إثبات أن الأشجار الساقطة قد سقطت بفعل إعصار "كاترينا"، وهو ما كان يعني إغراقها في كم هائل من الإجراءات الروتينية الورقية. ما من شك في أن المبرِّرين لأخطاء الإدارة سيقولون إن اللوم في عدم حدوث تقدم ذي شأن لا يجب أن يوجه لإدارة بوش، لأنه في الحقيقة يرجع للعجز الكامن في الأجهزة الحكومية التي تتسم بالبيروقراطية الزائدة. بالطبع هذا كلام غير منطقي، لأن الفشل في جعل الأمور تسير لا شأن له بالبيروقراطية، فهو أمر يقع علي عاتق القيادة العليا في النهاية. وبوش كان يجب عليه أن يتحرك بسرعة لتحويل وعوده إلي حقائق واقعية علي الأرض.. ولكنه للأسف لم يفعل ذلك. كان بإمكان بوش علي سبيل المثال أن يعين مسئولاً نشيطاً للإشراف علي عمليات الإنقاذ، وإعادة الأحوال في المناطق المتضررة إلي سابق عهدها، أي شخصاً لديه القدرة علي الدفاع عن الأسر والحكومات المحلية المحتاجة إلي المساعدة. ولكن بوش أيضاً لم يقم بذلك . وكان بإمكانه أن يقوم بمعالجة مشاكل وكالة إدارة الأزمات الطارئة الفيدرالية FEMA ولكنه لم يفعل بل دمر مصداقية الوكالة من خلال تعيين الأقارب والمحاسيب والخصخصة. حتي اليوم لا تزال هذه الوكالة تعاني من تدني المعنويات، ومن عدم القدرة علي تجديد النقص في صفوفها، أو تعيين العدد المطلوب من الموظفين. ربما تصل المساعدات التي وعدت بها الحكومة إلي المنطقة ذات يوم.. ولكن عندما يأتي ذلك اليوم سيكون الوقت قد تأخر كثيراً. فالكثير من القاطنين السابقين في المدينة، وأصحاب المشروعات الصغيرة فيها الذين ملوا من انتظار المساعدات التي لم تأتِ أبداً، سيكونون قد اضطروا للانتقال في النهاية إلي أماكن غيرها. أما المشروعات الأخري التي ظلت مفتوحة، أو التي أُعيد فتحها بعد الإعصار، فستكون قد عانت بما يكفي من نقص الزبائن. فهنا أيضا -كما في العراق- سيكون تأجيل إعادة الإعمار بمثابة حرمان من إعادة الإعمار.. وهنا أيضا _ كما في العراق- سيكون بوش قد أخفق في الوفاء بالوعود التي قطعها علي نفسه.