"لا تقاطع أبدا العدو أثناء ارتكابه للأخطاء" هكذا جرت الحكمة القديمة علي لسان نابليون بونابرت. ولو فقط استطاعت الحكومة الإسرائيلية، أو الجماعات التي تقود الشعب الفلسطيني مثل "حماس" وفتح، أو تلك العاملة في لبنان مثل "حزب الله" الاقتداء بتلك الحكمة لرأينا فجأة انبثاق السلام في المنطقة، أو علي الأقل لشهدنا توقفاً حذراً لأعمال العنف في المناطق الحدودية في غزة والضفة الغربية، أو في إسرائيل ولبنان. فقد ارتكبت جميع الأطراف أخطاء وتحركات غير موفقة خلال الأسابيع الأخيرة، لكن كل طرف من الأطراف أُنقذ من أخطائه وخُلص من هفواته بعد تدخل الطرف الآخر بأخطاء وهفوات أكبر. وباتباعهم لهذا النمط من الأخطاء والأخطاء المقابلة دفعوا بالعالم إلي شفير هاوية تنذر بخروج الأمور عن السيطرة وتوسع رقعة الحرب. واليوم بعد اندلاع الحرب لن نستطيع مهما حاولنا تحديد البادئ، ذلك أنه كباقي الأسئلة العالقة في الشرق الأوسط لن تجد من يتفق علي جواب واحد حول المسئول عن الأزمة. لكن المراقبين غالباً ما يرجعون الشرارة الأولي إلي العملية العسكرية التي قام بها الفلسطينيون في شهر يونيو الماضي وأسفرت عن أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت ومقتل جنديين آخرين. الفلسطينيون من جانبهم سارعوا إلي تبرير العملية علي أنها رد علي عملية سابقة اختطف خلالها الجيش الإسرائيلي أخوين فلسطينيين هما أسامة ومصطفي معمر اللذين يؤكد الفلسطينيون أنه لا دخل لهما بأي شيء عدا كونهما أبناء أحد النشطاء البارزين المعروف بعلي معمر. ومن هذا المنظور تبدو العملية الفلسطينية مشروعة وتندرج في نطاق المعقول ما دامت استهدفت موقعاً عسكرياً ولم تؤذِ المدنيين كما تفعل إسرائيل. ومع ذلك ردت إسرائيل باجتياح قطاع غزة ودخول المناطق الفلسطينية، ما حدا بالفلسطينيين إلي رفع سقف مطالبهم التي أصبحت تدعو إلي إطلاق سراح المئات من الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية كشرط للإفراج عن جلعاد شاليت، وليس فقط الإفراج عن الأخوين معمر. والأكثر من ذلك أن التوغل الإسرائيلي في قطاع غزة ربما أعطي "حزب الله" الضوء الأخضر لإطلاق صواريخه علي شمال إسرائيل. ورغم محاولة الرئيس بوش والحكومة الإسرائيلية النظر إلي الحادثين علي أنهما منفصلان، فإن معظم المسلمين والرأي العام العربي رأي في الرد الإسرائيلي سواء في الأراضي الفلسطينية، أو لبنان عدوان واحدا لا فرق بينه. وهكذا جاء الرد الإسرائيلي علي عملية غزة خالياً من أية حكمة، بل كان غبياً للغاية. كما أن مطالبة الفلسطينيين بالإفراج عن جميع المعتقلين في السجون الإسرائيلية أفرغت عمليتهم من أي مضمون معقول وأظهرت افتقارهم لأي مهارة دبلوماسية. ولو اكتفي الإسرائيليون بالتهديد باجتياح قطاع غزة وركزوا علي عمليات الإنقاذ التي تقوم بها قوات خاصة لاسترجاع الجندي الأسير لدفعت بالفلسطينيين إلي فقدان نقطة القوة التي كانت في أيديهم. لكن الخطأ الفلسطيني لم يدم طويلاً بعدما قطعه الإسرائيليون بخطأ أكبر منه عقب اجتياحهم الواسع لقطاع غزة ودخولهم واحدة من أفقر الأماكن وأكثرها ازدحاماً علي وجه الأرض بجيش جرار لإنقاذ جندي واحد اعتبرته إسرائيل مخطوفاً في حين أنه كان في الخطوط الأمامية ويحمل السلاح. وفي دوامة الأخطاء المتبادلة قام حلفاء الفلسطينيين بعد ذلك بقليل بإنقاذ الإسرائيليين من خطئهم عندما أطلق "حزب الله" صواريخه علي شمال إسرائيل، متسبباً في وقوع عدد من الضحايا عقب مناوشات بسيطة علي الحدود كان يمكن احتواؤها بسهولة. وقد كان ارتباك إسرائيل كبيراً وواضحاً إلي درجة أنها انجرت هي الأخري لإنقاذ "حزب الله" من خطئه مرة أخري عبر شنها لحملة عسكرية واسعة أمطرت خلالها لبنان بعدد هائل من القنابل وقصفت فيها البنية التحتية والبنايات المدنية مسفرة عن مقتل المدنيين الأبرياء. والآن بعد كل تلك الأخطاء من الجانبين من يذكر، أو حتي يهتم بمن بدأ الحرب وأشعل فتيلها؟ كل ما يريد المدنيون علي الجانبين هو تكثيف جهود الإغاثة لإخراجهم من تحت الأنقاض وإنقاذ أرواحهم من القصف المتبادل. وسواء شاءت الصدف أن يتواجدوا بالقرب من مكان سقوط صاروخ كاتيوشا، أو أنهم لم يستطيعوا ترك بيوتهم في جنوب لبنان والاحتماء بشكل آمن يعاني المدنيون علي جانبي الحدود من الموت ذاته.