باتريك سيل غامض بقدر ما هو مثير للقلق هذا الدعم الكامل الذي تقدمه الولاياتالمتحدةالأمريكية لإسرائيل في حربها الغاشمة علي لبنان. فكيف لنا أن نفسر هذا السلوك؟ لا شك أن للعاطفة دوراً فيه، بقدر ما للوبي الصهيوني ذي الرؤوس السبع كما حيوان الهيدرا الخرافي من قدرة علي إقناع الرأي العام في واشنطن بفكرة تطابق المصالح الأمريكية الإسرائيلية، وبكونها تواجه خطراً واحداً متمثلاً في "الإرهاب الإسلامي".ولكن لا مناص من ذكر الدور الخبيث الذي يؤديه "المحافظون الجدد" داخل وخارج إدارة بوش في رسم وتشكيل السياسات الخارجية الأمريكية، في وجهة موالاة إسرائيل والانحياز المطلق إلي جانبها. بيد أن هذا كله ليس كافياً لتفسير هذا التحالف غير المشروط من قبل واشنطن مع تل أبيب، ولرفض الأولي وعدم إصغائها لكل المطالب والنداءات الدولية بالوقف الفوري لإطلاق النيران في لبنان، بل ولتفسير إسراع واشنطن بإرسال المزيد من أسلحتها لإسرائيل، ثم لفهم هذا العزم الدبلوماسي الذي تبديه وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، علي ضمان الخروج من محادثاتها الشرق أوسطية هذه بنصر مؤزر لصالح إسرائيل، مقابل إلحاق هزيمة ماحقة بأعدائها وتجريدهم من أسلحتهم، لا سيما عدوها اللدود "حزب الله". ولك أن تحصي الخسائر المباشرة لهذه الحرب. فقد جري تدمير البنية التحتية التي يعتمد عليها المجتمع المدني اللبناني بكاملها. وفي الوقت ذاته لقي أكثر من 600 لبناني مصرعهم جراء القصف والغارات الوحشية، بينما شرد ما يزيد علي المليون منهم. وخلقت هذه الغارات في مجموعها وضعاً ليس أقل من كونه كارثة إنسانية وطنية عامة. أما في الجانب الإسرائيلي فقد لقي مصرعهم نحو 40 مواطناً، بينما أصيب عدد أكبر من ذلك بكثير، نتيجة لصواريخ "حزب الله" التي تستهدف المدن والمواقع الحدودية في شمال إسرائيل. وفي الوقت ذاته لحق بحياة المواطنين الإسرائيليين وبالاقتصاد الوطني لا سيما في الشمال دمار هائل. ثم عليك أن تنظر إلي حجم التكلفة غير المباشرة للحرب؛ فقد بلغ العداء لإسرائيل في المنطقة وخارجها الآن مبلغاً يثير غيوماً كثيفة من الشك، حول القبول البعيد المدي لوجودها بهذه المنطقة. وبالقدر ذاته تهشمت صورة الولاياتالمتحدةالأمريكية وسمعتها في العالمين العربي الإسلامي، وبلغت حداً من الحضيض يهدد بعواقب وخيمة علي مصالحها الحيوية وأمن مواطنيها. ومن جراء هذه الحرب وتداعيتها، فقد استشاطت كل من المملكة العربية السعودية ومصر والأردن ودول الخليج العربي، غضباً إزاء حرب أثارت ما أثارت لدي هذه الدول من حرج أمام الرأي العام لشعوبها، وأرغمتها علي إعادة التفكير والنظر في سياسات التعويل علي واشنطن، خاصة وأن الدول المذكورة جميعها تعد حليفاً تقليدياً للولايات المتحدة في المنطقة. وكان طبيعياً أن تتساءل هذه الدول عن جدوي الصداقة مع أمريكا، طالما أن حماية المصالح الإسرائيلية هي التي تعلو علي أي مصلحة واعتبار آخر؟ وبالنظر إلي هذه التكلفة الفادحة للحرب الدائرة الآن، فإنه لمن الأهمية أن نتساءل عن الذي يدفعها؟ في اعتقادي الشخصي أن تفسير دوافع هذه الحرب إنما يكمن في الصدمات الموجعة الكبيرة التي تلقتها كل من واشنطن وتل أبيب خلال الخمس أو الست سنوات الماضية، وهي صدمات قوضت استراتيجية تفوقهما الاستراتيجي، وواجهت كلتيهما بالحقيقة المؤلمة الداعية إلي إعادة النظر في مجمل مبدأ الاستراتيجية الذي بنيت عليه سياساتهما. ولعل أفضل فهم وتفسير لهذه الحرب الإسرائيلية-الأمريكية علي لبنان، هو توق الدولتين الحليفتين وتشبثهما بأي أمل يؤدي إلي تغيير الاتجاه العام السلبي العام السائد ضدهما. وعند النظر إلي هذه الصدمات بعين أمريكية، فإنها تشمل ضمن ما تشمله، هجمات 11/9 عليها في عقر دارها، وما أسفرت عنه تلك الهجمات من مذبحة جماعية لمواطنيها. وهناك أيضاً عجز الولاياتالمتحدة عن سحق التمرد العراقي، الذي بدا وكأنه هزيمة استراتيجية لها يوماً إثر الآخر. أما بالعين الإسرائيلية، فليس أقل هذه الصدمات وأشدها إيلاماً من انسحابها المهين أمام ضراوة "حزب الله" من جنوبي لبنان عام 2000، متبوعة بالعمليات الانتحارية التي نفذتها ضدها حركة "حماس" خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وهي الهجمات التي راح ضحيتها نحواً من 1000 مواطن إسرائيلي، مقابل 4000 فلسطيني راحوا ضحية العمليات الانتقامية الإسرائيلية. وإلي هذه الصدمات لا بد من إضافة الصعوبة البادية التي تواجهها إسرائيل في سحق "حزب الله"، علي رغم تفوقها العسكري الكبير عليه. نخلص من كل هذه التطورات والصدمات إلي استنتاج رئيسي مفاده أن الحروب غير المتكافئة التي يخوضها لاعبون وقوي غير حكومية، قد تمكنت من تمريغ القوتين الأمريكية والإسرائيلية في الوحل، وأصابتهما في مقتل بتجريدهما من قدراتهما الرادعة. وبالنتيجة فقد بدا تفوقهما الاستراتيجي ضرباً من