"عزيزي زين الدين زيدان، لك إعجاب ومودة أمة بأكملها ولك احترامها أيضا. أنت ماهر، أنت عبقري في كرة القدم العالمية، وأنت أيضا رجل ذو قلب والتزام وقناعة. لهذا السبب، فرنسا كلها معجبة بك وتحبك". بتلك الكلمات الرقراقة العذبة توجه الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلي لاعب المنتخب الوطني الفرنسي لكرة القدم ذي الأصول الإسلامية العربية الجزائرية زين الدين زيدان خلال استقبال أقامه شيراك علي شرف لاعبي المنتخب الفرنسي لكرة القدم بقصر الإليزيه بعيد نهائي مونديال ألمانيا. في غضون ذلك التكريم الرسمي الفرنسي لزيدان،كان الاتحاد الدولي لكرة القدم يعلن تتويج نجم فرنسا بإدراج اسمه ضمن قائمة أفضل لاعبي كرة القدم علي مر التاريخ ،كما قرر منحه الكرة الذهبية بعد أن اختير من قبل لجنة دولية للمحررين الرياضيين كأفضل لاعب في نهائيات كأس العالم الثامنة عشرة بألمانيا، حيث حصل زيزو في استفتاء أجرته الصحافة العالمية علي 2012 نقطة متقدما علي قائد المنتخب الإيطالي فابيو كانافارو الذي حصل علي 1977 نقطة وزميل الأخير أندريا بيرلو الذي لم يحصل إلا علي 715 نقطة. وفي سياق مواز،أظهر استطلاع للرأي أجرته ونشرت نتائجه صحيفة "لوباريزيان" الفرنسية أن 61 % من الفرنسيين قد غفروا لزيدان ما صدر منه في المباراة النهائية لمونديال ألمانيا وأنهم يشعرون بالإعجاب إزاء مسيرته الناجحة والمثمرة مع المنتخب الفرنسي لكرة القدم،وأنهم سعداء باختياره كأحسن لاعب في كأس العالم .وعلاوةعلي ما سبق، عمدت بعض وسائل الإعلام الفرنسية إلي استدعاء التاريخ الكروي الأسود لماركو ماتيرازي_ نجم دفاع ايطاليا، والذي يلقب ب "الجزار" و"القاتل". حيث تبين أنه من اللاعبين الذين اشتهروا بسمعة سيئة طوال تاريخه الكروي مما دفع العديد من الخبراء والصحفيين الي تلمس العذر لتصرف زيدان المفاجيء والمثير للجدل حياله. تعمدت أن أسوق كل هذه المؤشرات والقرائن مستهلا بها مقالتي تلك،لأبين لقارئي العزيز كيف أن زيدان قد نجح، بما لايدع مجالا للشك، في تجاوز التداعيات السلبية التي أعقبت حادثة اعتدائه علي مدافع المنتخب الإيطالي المثير للجدل ماركو ماتيرازي. فبالرغم من خروج النجم الفرنسي مطرودا من المباراة النهائية، علي نحو فتح عليه في باديء الأمر أبواب الشيطان من الهجوم والنقد اللاذع، حتي أن بعض الآراء اعتبرت مثل هذا التصرف غير المسئول منه سببا مباشرا في خسارة المنتخب الفرنسي للكأس ليس فقط لأنه كان من الممكن، أن يتسبب في هزيمته في الوقت الاضافي، ولكن أيضا لأنه ساعد ايطاليا علي بلوغ هدفها بالوصول إلي ركلات الترجيح، في وقت كانت فرنسا فيه أكثر سيطرة علي المباراة مما أفضي إلي خسارة الفرنسيين،كما اعتبرته آراء أخري أسوأ نهاية يمكن أن يختتم بها زيدان رحلته في ملاعب كرة القدم العالمية،حتي راجت شائعات حول نية الفيفا سحب الألقاب والتكريمات التي حصل عليها زيدان قبل الحادثة. وثمة اجتهادات شتي روجتها وسائل الإعلام العالمية بحثاعن الدوافع التي حملت زيدان علي ارتكاب مثل هذه السقطة الأخلاقية الكروية في توقيت بالغ الحساسية بالنسبة لمصير منتخب بلاده في المونديال وكذا ختام مشواره الكروي في آن، تركزت جميعها تقريبا في الزعم بأن زيدان قد أقدم علي فعلته المشينة تحت ضغط من الإهانات الشخصية الحادة، التي انهالت عليه من قبل المدافع الإيطالي إبان المباراة. فقد نشرت صحيفة الجارديان البريطانية، و أيدتها فيه وسائل إعلام أخري عديدة، أن ماركو ماتيرازي اتهم زيدان بأنه إرهابي قذر، علي اعتبار أنه من أصول عربية وإسلامية، غيرأن ماتيرازي أنكر هذا الزعم مدعيا أنه لا يعرف معني الإرهابي. وقد ظل مثل هذا الاجتهاد هو الأقرب إلي تفسير تهور زيدان حتي خرج الأخيرعن صمته وأعلن الأسباب الحقيقية وراء ما فعل،حيث صرح قبل أيام قلائل في حديث لشبكة التليفزيون الفرنسي، بأن المدافع الإيطالي قد كررغير مرة السباب لأم زيدان وأخته ليلي متهما إياهما بالعهر والفحش. وحالة ما إذا ثبت أن مدافع إيطاليا قد وجه لزيدان حقا تلك الإهانات المشينة مستندا في ذلك إلي كون الأخير ذا جذور عربية وإسلامية،فإن قضية اعتداء زيدان علي المدافع الإيطالي تكون بذلك قدعرجت من دائرة الرياضة إلي ساحة الثقافة ودوامةالسياسة، ذلك أن دلالات سياسية وحضارية عديدة يمكن أن تستنبط من تجاسر المدافع الإيطالي علي استفزاز زيدان بهذه الصورة. فمثل هذه الحادثة تشي بأن هناك في الغرب من لايزال صدره ضيقا إزاء المهاجرين العرب والمسلمين، مهما حققوا من نجاحات في أوطانهم الجديدة،الأمر الذي يؤكد أن شيطان الإسلاموفوبيا ،الذي يستحوذ علي العقلية الغربية، لا يزال أقوي من أن تجهز عليه إنجازات ونجاحات العرب والمسلمين في المجتمعات الغربية علي أي صعيد. فزيدان الذي شارك في 108 مباريات دولية و أحرز العديد من الألقاب والبطولات كدوري أبطال أوروبا مع ريال مدريد الأسباني، وكأس أندية العالم للقارات مرتين مع اليوفنتوس وريال مدريد، وكأس السوبر الأوروبي مرتين، كما فاز مع منتخب بلاده ببطولة كأس العالم عام 1998، ثم بكأس الأمم الاوروبية عام 2000 ،حتي تبارت أقلام عربية وإسلامية في الإشادة به كنموذج مبهر للعربي المسلم الناجح والمندمج في المجتمعات الغربية علي نحو من شأنه أن يسهم في تضييق الفجوة بين الإسلام والغرب ويمد جسور التواصل والحوار بينهما،لم يسلم رغم ذلك كله من الإهانات والاتهامات بسبب عروبته وإسلامه المتجذرين في هويته ،ليتساوي بذلك مع أي مسلم أو عربي سيء يمثل عبئا إقتصاديا وحضاريا علي المجتمعات الغربية التي هاجر إليها،وكأن الأمر سواء عند الغرب. علي صعيد آخر، يبدو أن التداعيات التي أعقبت حادثة زيدان وما علق بها من ردود فعل رسمية وشعبية من قبل الإيطاليين، قد دفعت الدولة الفرنسية إلي تبني خطوات جادة وحازمة لوقف ما وصفوه بالهجوم العنصري الإيطالي علي بلادهم. ففي الوقت الذي كان يستقبل فيه الإيطاليون منتخبهم الوطني لكرة القدم استقبال الفاتحين عند عودته بكأس العالم الي روما،لم يتورع السناتور كالديرولي، الذي فتنته نشوة الانتصار الثمين، عن إطلاق تصريحات مستفزة حينما قال علي سبيل المثال أن فوز منتخب إيطاليا في المباراة النهائية للمونديال يعد بمثابة انتصار سياسي علي الفريق الفرنسي الذي يضم خليطا من الأعراق، وضحي من أجل الحصول علي البطولة بهويته حينما اختار تشكيلة من اللاعبين السود والمسلمين والشيوعيين. وهو الأمر الذي استفز السفير الفرنسي لدي إيطاليا ايف اوبين دي لا ميسوزيري، الذي أكد علي أن بلاده تفتخر بفريقها وبجميع أفراده، الذين تعتبرهم أبناء لها بغض النظر عن أصولهم ودياناتهم، كما تقدم باحتجاج الي مجلس الشيوخ الإيطالي بشأن تعليقات النائب البرلماني إيطالي، التي وصفها السفير الفرنسي بالخسيسة وغير المقبولة وأنها تبعث علي الحقد والكراهية بين الدول والشعوب. وفي الوقت الذي تنهال المطالب الفرنسية والجزائرية علي الفيفا لإجراء تحقيق دقيق في حادثة زيدان للوقوف علي الأسباب التي دفعته للقيام بفعلته المشينة، طلب النائب البرلماني الإيطالي ريكاردو فيلاري من وزيرة الرياضة في بلاده جوفانا ميلاندري أن حمل مدافع المنتخب الإيطالي الذي تسبب في طرد زيدان علي تحري الصدق في تفسيرما جري تلاشيا لتفاقم الأمر إلي مستوي الأزمة. وبصرف النظر عن مدي جدية أو استمرارية ذلك التصعيد الذي أعقب حادثة زيدان، فإن الشيء المؤكد حتي الآن هو أن نجم المنتخب الفرنسي قد تمكن إلي حد كبيرمن تحويل انتكاسته الكروية وأزمته الثقافية إلي نصر أخلاقي و سياسي بعد أن أجاد توظيف تطاول المدافع الإيطالي علي أمه وشقيقته في استعادة تعاطف واحترام جماهير الساحرة المستديرة حول العالم. وهو إنجاز قد لا يتسني لكثير من عرب ومسلمي أوروبا المضطهدين تحقيقه.