"... إن مائة بالمائة من هؤلاء لا يعرفون شيئا عن علمين رئيسيين في عالم الشعر وهما: علم العروض والقافية، وبرغم هذا فهم يصرون بجرأة تحسب لهم علي أنهم يقرضون الشعر، وما هو والله (شعرًا)!! فهي أبيات مكسورة الأوزان، مستهلكة القوافي، مستنتجة المعاني!". "ويستوقفني في أغنياتهم (شيئيين)". "وكأن هناك (تعمد) من جانب هؤلاء جميعا في تجاهل ما بلغه الأقدمون". "فسلام علي ستة عشر بحرًا بني (عليهم) العرب أشعارهم". هذه بعض مقتطفات وردت في مقالة للأستاذ أشرف عبد المنعم طالعتنا بها جريدة "الأهرام" في عددها الأسبوعي يوم الجمعة الموافق 16 يونيو في الصفحة الثانية "يوم جديد" في عمود اسمه "في الميزان". وعنوان المقالة: "وما هو والله شعرا، ولا هي ألحان"، ينتقد فيها الكاتبُ بعنف شباب الشعراء المتبجحين الذين لا يجيدون علم العروض ولا فنون القوافي وأسرارها ومع هذا يقرضون الشعر. إذ يأتون إليه كلَّ يوم حاملين دواوينهم وقصائدهم كي يستأنسوا برأيه ثم يسألوه أن يساندهم في التحقق والوصول. ويكمل المقالة بدرس فني عميق راصدًا فيه أسماء البحور الخليلية الستة عشر، وأنواع القوافي وحروفها من روي ووصل وردف وتأسيس، وحركاتها من مجري وتنفيذ وإشباع، وقد توغل عميقًا في الزحافات والأوتاد والأسباب، فيما أسماه "بديهيات الشعر". وفي الأخير عرّج علي علم الإيقاع الموسيقي والمقامات والآلات وغيرها. ولن أجادل الكاتب حول فكرة قديمة مفادها أن الشعر ليس وزنا خليليا ولا قافية ولا معاني، فهذا خطاب قديم تم تجاوزه من عقود طويلة. بل إنني رأسًا سأتفق معه في المبدأ العام الذي ذهب إليه من حتمية القبض علي جوهر علمٍ ما قبل الإقدام علي الإبحار فيه. ويجدر بي هنا أن أشكر الكاتب عميقًا علي هذا الدرس الفني، الذي كبده أن يفتح مراجع وكتبًّا تدله علي مسمياتِ وتعاريفَ وأسرارِ ما طرح من علوم وفنون. والحال أن شكري هذا كاد يكون خالصًا ونقيا لو كان الكاتب قد أتم جهده بمراجعة مقالته لغويا قبل النشر حتي تسلم من أخطاء النحو "البديهية" التي وضعتُها بين قوسين في مستّهل المقال. تلك الأخطاء التي من الممكن أن نحسبها علي أعمال الجمع والديسك لولا أن العنوان تكرر فيه خطأ ورد بمتن النص وهو نصب كلمة "شعر" في حين يجب رفعُها. ولن أغامر وأسأل: علامَ نصبتَها؟ حتي لا يجيبني: علي ما يسوؤُك وينوؤُك. وأشك في أن الكاتب قد أورد "ما" موردَ "ما الحجازية" التي تنصب الخبر مثلما تفعل "ليس"، ليس فقط لأن الأخطاء الأخري (التي بين قوسين) ينفي وجودُها هذا الاحتمال، بل لأن ما الحجازية تلك تظل شديدة المحلية تخص عشيرة من الناس مهجورةٌ دارجتُهم حتي ولو نزل القرآن بلسانهم كما في الآية الكريمة: "ما هذا بشرًا، إن هو إلا ملك كريم". والحال أنني لولا هذا العنوان ما استوقفني الأمر، لكن "شعرا" التي نصبتْها المقالةُ عسفًا هي التي لفتتني فقرأتُ لأتبين أهو خطأ حقيقي أم هي سخرية وراءها قصديةُ الخطأ. والحقيقة أن حنقي البادي الآن ولم أستطع كبحه ليس بسبب مفارقة أن ينتقد امرؤٌ شيئا ثم يقع فيه، فالأمر، بالنسبة لي، أكثر اتساعا من هذا وأشد خطرًا وإيلاما. فالأخطاء الإملائية والنحوية في صحفنا المصرية ملء السمع والفؤاد وملء السماء والأرض ولم تعد جريدةٌ واحدة تنجو منها. وكأن موظفي الديسك يكافَئون ويجزَل لهم العطاء كلما تجاوزوا عن أخطاء اللغة (بفرض أنهم يدركون الخطأ من الصواب). أو كأن اللغة العربية بالفعل في احتضارها الأخير وليس من باكٍ عليها ولا مدعاة للبكاء. أو كأن الكتّاب والصحفيين والشعراءَ يؤمنون أن كل قرائهم جاهلون بالقوة وبالفعل ومن ثم لن يستوقفهم خطأ لغوي، ناسين أن ثمة قارئًا أو قارئين أو خمسة بين هؤلاء قد يفقدون المقدرة علي إكمال النص والاستمتاع به، مهما كان جميلا، بعد أول خطأ يصدم عيونهم. إذن ليس ما أشعل حنقي هو أخطاء اللغة هذه، فقد اعتدنا عليها والحمد لله ولم تعد تثير دهشتنا أو حنقنا. لكن الذي استفزني هو أن الجريدة هي الأهرام، وأعلم أن قارئا يقول لي الآن، مهلا مهلا، أمازلتِ تظنين أن الأهرام حاله كما كان في عهوده الغابرة المشرقة! أعلم، أن الأهرام الذي كان ينشر قصائد شوقي ومقالات هيكل ونقد طه حسين ومندور ولويس عوض وقصص نجيب محفوظ قد ولّي ولن يعود. لكن الفكرة أن هذه الجريدة تحديدا مازالت تمثّل اسم مصر صحفيا علي نحو أو آخر رغم وجود 500 صحيفة بمصر الآن. ووجود أخطاء بها كالتي نرصدها كل يوم في كل الصفحات باتت تكرّس فكرةً يروجها بعض المثقفين العرب من أن المركزية الثقافية حان لمصر الآن أن تتنحي عنها لصالح دول أخري أكثر احتراما للغة وللثقافة. ولا أريد أن أكون صادقة تماما وأقول إن هذا صحيح إلي حد بعيد. لأن الراصد للأمور سوف يجد أن اللغة فقدت احترامها ليس عند كتلة الشعب، بل عند صائغيها والعاملين في مطبخها وأقصد الشعراء والكتّاب والصحفيين. هذا أمر مبكٍِ ومرير. وهو ما استصرخ به بعض آخر الباكين علي اللغة العربية وشيكة الموات مثل فاروق شوشة في مقالاته بالأهرام، وأحمد عبد المعطي حجازي في أربعائياته التي خصص سلسلةً منها لنداء أخير للّغة الساعية نحو حتفها. وقال في إحدي مقالاته: "نحن أمةٌ تنفقُ من ماضيها علي حاضرِها". هذه الخيبة التي وصلنا إليها سوف تطرح رأسًا عدة أسئلة. من قِبل: ما هي مؤهلات العاملين في مكاتب الديسك والجمع في الصحف؟ وهل يقومون بأعمالهم جيدًّا؟ وهل مرتباتهم تجزيهم بحيث يحبون ما يعملون؟ وهل ثمة مراجعون بعدهم؟ لكنني سأمحو جميع الأسئلة السابقة وأطرح سؤالا آخر أكثر شرعيةً وجذرية. هل كل الكتّاب أنفسهم علي دراية بلغتهم وأصولها؟ لماذا لا يقومون بمراجعة كتاب النحو المدرسي قبل التجرؤ علي الإمساك بالقلم وكتابة قصة أو قصيدة أو مقال؟ ثم لماذا لا يقومون هم بمراجعة نصوصهم عوضا عن الديسك الكسول؟ أعرف كتّابا كبارا، (في المكانة وفي العمر) مثل حجازي مثلا، يذهبون إلي مقر الجريدة بأنفسهم لمراجعة مقالاتهم بعد الجمع كيلا تمسسها هنةٌ لغوية. لكن المصيبة تأتي حين يجهل الكتّابُ أنفسهم بوجود أخطاء. أعرف شبابا يأتونك بقصيدة مليئة بأخطاء النحو، فتقول لهم هذا فيردون عليك: "سيبك من النحو بس ايه رأيك في القصيدة؟" وأعرف شعراء تخرجوا في كلية الآداب قسم اللغة العربية ينصبون الفاعل ويرفعون المفعول ويجرون المبتدأ. وهذا يرمينا إلي السؤال السؤال، أو سؤال الأسئلة. هل تقوم وزارة التربية والتعليم (لا أعرف هل اسمها مازال هكذا أم ماذا)، بدورها إزاء تعليم النشء اللغةَ العربية؟ قرأتُ من سنوات خلت في بريد الأهرام كلمة كتبها طالب في كلية الهندسة (وهي كلية قمة لا يدخلها إلا المتفوقون) قال فيها أشياء مثل هذه: أنا طلب هندس وارد البحس عن شوغل بعد الظوهر لكاي اصطيع أن أكمل تعلمي واشتري كتب الجمعة". يعني هذا الطالب قد درس اللغة العربية لأربع عشرة سنة في الأقل، ثم امتحن الثانوية العامة وأصاب مجموعًا كبيرا أدخله الهندسة!! هذا هو التعليم في بلادي، وهذه هي الصحافة والإعلام في بلادي، وهؤلاء هم الصحفيون والكتّاب في بلادي، وهذا هو الأهرام الذي أصبح ميراثا خاصا ومُلكا عضوضا لكتابه يتوارثونه فيما بينهم وبين أصدقائهم بينما تتجه بعض الأقلام الحقيقية إلي الكتابة في الصحف العربية الجادة التي تقدر عقولهم وتطلب موادهم بل وتجزل لهم العطاء أيضًا. بقي أن أقول إن مقالة الأهرام ليست إلا نموذجًا لحال مستشرية وإن تركيزي عليها ليس إلا لفتح القوس علي المشكلة الأكبر فمعذرة للأستاذ الكاتب. وفي الأخير أرجو أن ينتبه الأهرام، وأسحب كلامي علي كل الصحف والمجلات المصرية، إلي مكانته الآخذة في الأفول وأن يحاول أن يستنهض عزيمتَه من جديد لأن أمجادنا المصرية تزوي مجدًا وراء مجد. ورحم الله الصحافة المصرية في النصف الأول من القرن الماضي ألف رحمة ونور. آمين