ولكي لا نطلق القول والاتهامات جزافاً، لنتحدث عن أن غزو العراق، شن علي ذرائع مختلقة ومزورة، وأنه يخدم تعزيز أجندة خاصة في المنطقة الشرق أوسطية، أكثر مما له علاقة بحماية الأمن القومي الأمريكي، والحيلولة دون تعرض أمريكا لهجمات إرهابية أخري مستقبلاً. والملاحظ أن مجموعة مسئولي المحافظين الجدد نفسها، التي دفعت واشنطن دفعاً باتجاه العراق، هي نفسها التي تمارس الضغوط اليوم وتحض علي استخدام القوة من جديد في المنطقة. والنتيجة التي لا مراء فيها أن السياسات العدوانية المتشددة التي تبنتها واشنطن بزعم احتواء "الخطر الإرهابي" أو إلحاق الهزيمة الماحقة به، ساعدت كثيراً في دعمه وتقوية عوده وشوكته. وبذلك تجني أمريكا عكس ما تريد، بزراعتها للعاصفة ونيران الغضب الشعبي عليها. ولما كانت هذه هي النتيجة النهائية، فهل من المثالية الطوباوية أن يفكر المرء فيما يمكن أن توظف فيه هذه الموارد المالية والعسكرية الأمريكية الضخمة التي أنفقت علي حروب خاسرة؟ في اعتقادي الشخصي أنه كان ممكناً للولايات المتحدة أن تنفق هذه الأموال الهائلة لتعزيز فرص السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، فتعطي مثلاً إسرائيل مبلغاً أقل بعشرات المرات من 450 مليار دولار، لتمكينها من إجلاء مستوطنيها من أراضي الضفة الغربية، وتعويض اللاجئين الفلسطينيين عن أراضيهم التي خسروها جراء الاحتلال، مما يؤدي إلي حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني حلاً عملياً وناجعاً، مع العلم بأنه هو النزاع الذي ظل يلهب المنطقة ويؤرقها علي امتداد ما يزيد علي نصف قرن. كما يمكن لواشنطن أن تخفف من ويلات الفقر والمرض، في جزء كبير من القارة الأفريقية بمبلغ أقل من ال450 دولاراً التي أنفقتها علي حروبها الخاسرة علي الإرهاب الدولي. بل يمكنها إعادة بناء العراق، بعد تخليصه من آلام الاحتلال ومآسيه. ومما لاشك فيه أن معاناة العراق وخسائره في هذه الحرب، تفوق أضعاف تلك التي تكبدتها أمريكا. فمن ناحية الخسائر البشرية، يقدر عدد القتلي العراقيين بعشرات الآلاف، بينما يذهب البعض إلي القول بتجاوز عددهم المائة ألف قتيل. أما حجم الدمار المادي والاجتماعي الذي لحق به، فمهول ومؤلم بحق. والحقيقة المأساوية التي لابد من تقريرها هنا، أن العراق كدولة عربية كبري موحدة وقائمة من قبل، وكحضارة إنسانية عريقة، لحق به دمار مرعب ربما يتعذر إصلاحه مطلقاً. أما حمامات الدم اليومية، فلا تقل مأساوية ولا إثارة للقلق، خاصة وأنه لم يلح بعد، من المؤشرات ما يبعث الأمل علي وضع حد لها. يذكر في هذا السياق أن دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي، كان قد أعلن في شهر ديسمبر من العام الماضي، عن خطة ترمي إلي خفض قواته المرابطة حالياً في العراق. غير أن هذه الخطة قد صرف النظر عنها الآن، بسبب شعور واشنطن بضرورة تقديم أقصي ما تستطيعه من دعم لحكومة نوري المالكي الجديدة. ذلك هو ما أكده الرئيس بوش خلال زيارته المفاجئة لبغداد الأسبوع الماضي، وحديثه عن بقاء أمريكا في العراق إلي حين استتباب أمنه التام، بصرف النظر عن التضحيات التي يتطلبها ذلك. وفي يوم الجمعة الماضي، صوت مجلس النواب الأمريكي بأغلبية 256 (مقابل 153 صوتاً معارضاً)، لصالح قرار يعد ب "إكمال المهمة العراقية" وأن تكون لأمريكا اليد الطولي في الحرب الدولية علي الإرهاب، والاعتراض علي أي مسعي لتحديد جدول زمني افتراضي لانسحاب القوات الأمريكية. وبينما خابت آمال ومساعي "الديمقراطيين"، فإن من الواضح أنه لن يطرأ أي تغيير علي هذه السياسات، حتي لحظة مغادرة بوش للبيت الأبيض، خلال مدة تزيد علي العامين بقليل. أما صدمة المنطقة العربية جراء هذا الغزو الكارثي الأمريكي للعراق، فيرجح لتأثيراتها أن تستمر لعدة عقود قادمة. ومما زاد الطين بلة وعصف بثقة الشعوب بالولايات المتحدة ليس علي نطاق المنطقة العربية الإسلامية وحدها، وإنما حتي من أقرب وأوثق حلفائها الأوروبيين ما ارتكبته من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان في كل من سجني جوانتانامو وأبوغريب، وركلها للقانون الدولي، ونفاقها المخزي فيما تدعيه من "نشر الديمقراطية"، هل لها أن تغير مسارها؟ الأرجح أن الإجابة علي هذا السؤال هي النفي. والسبب هو أنها لم تسائل نفسها يوماً بالجدية والصراحة المبتغاة، عن السبب الذي يجعل الإرهابيين يستهدفونها؟ وأقصد هنا علي وجه التحديد أن تلك العلاقة "الأزلية" الوثيقة التي ربطت بين واشنطن وإسرائيل علي رغم أنها أسُّ المشاكل لم تثر نقاشاً جاداً حولها في أمريكا! وعلي امتداد ما يزيد علي نصف القرن، ظلت واشنطن تؤثر إسرائيل دائماً علي جيرانها العرب، مما يثير غضبهم وحنقهم عليهما معاً. فها هي تصرف النظر عن أسلحة إسرائيل النووية في الستينيات وتتعامل مع مفاعل ديمونة النووي في صحراء النقب وكأنه لم يكن، وها هي تمول احتلالها غير المشروع لأراضي الفلسطينيين في حرب عام 1967 وتبارك سلب تل أبيب ونهبها لحقوق الفلسطينيين وديارهم وممتلكاتهم. وفي أعقاب حرب أكتوبر 1973، تمكن هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي وقتئذ، من رفع دعم بلاده لإسرائيل، من ملايين إلي مليارات الدولارات. وتلك أمريكا تبارك سراً اجتياح إسرائيل للبنان وحصارها لعاصمته بيروت في عام 1982، ثم لا تبدي اعتراضاً لاحتلالها لجنوب لبنان علي امتداد الثمانية عشر عاماً اللاحقة! وبدلاً من معاقبتها علي ذلك الاجتياح، سعت واشنطن إلي مكافأة حليفتها تل أبيب بإبرام صفقة سلام أحادي بينها وبين بيروت، الهدف منها وضع لبنان تحت إبط إسرائيل وهيمنتها المطلقة.