فمنذ 40 عاما لم تكف تركيا عن محاولات الهرولة نحو الاتحاد الأوروبي طلبا للرضا السامي لوزراء خارجية الاتحاد من أجل الموافقة علي انضمام "تركيا المسلمة" إلي مجموعة دول الاتحاد كعضو دائم.. فإذا كان من حق أي دولة أن تسعي وراء مصالحها فذلك حق مشروع سواء علي الصعيد السياسي أو الاقتصادي مما يستلزم بداية تحديد محاور الانطلاق إلي الهدف بشرط اتباع سياسة "الخطي الثابتة" فلا يجب ذلك السعي في النهاية من باب "الهرولة السياسية" بنوع ما من العشوائية التي قد تضيع صاحبها وبالتالي يفقد ظله علي الطريق! إذن فالسؤال الذي يفرض ذاته هنا: لماذا تسعي تركيا وراء مصالحها أو هكذا تري من خلال الاتجاه غربا؟! وليكن السؤال بصيغة اخري فيتساءل لماذا تسعي تركيا وفق ما تراه من صحيح المصلحة العليا لها وراء الاتحاد الأوروبي المتمركز غربا في تحالف مسيحي.. بعد أن رجحت كفة الاتجاه بهويتها "الأوروبية العلمانية" علي كفة الاتجاه شرقا بهويتها "الآسيوية الإسلامية"؟! ونحن نتصور أن ذلك التساؤل علي درجة ما من الخطورة الأيديولوجية ويتعلق برقاب العالم الإسلامي كالأجراس.. ذلك بعد أن حمل أكبر علامة استفهام في التاريخ الإسلامي وبعد أن احتوي في طياته التناقض الصارخ والغامض للنموذج التركي الذي قل أن يوجد علي الخريطة السياسية لدول العالم الإسلامي.. ولعل ذلك يرجع إلي موقع تركيا الجغرافي فيما بين آسيا وأوروبا.. ذلك الصراع الدائم فيما بين الأيديولوجية العلمانية الوليدة منذ عهد "كمال اتاتورك" في أوائل العشرينيات من القرن الماضي والغرس الإسلامي الراسخ في التربة التركية حتي وقتنا هذا! وبرغم ذلك وأيا كانت تداعيات العلمانية علي أرض إسلامية فإن فصل الدين عن الدولة ليس معناه بالقطع فصل الدين عن الوجدان العقائدي للشعوب.. ونحن نتصور بالتالي أن ذلك التصور العلماني المسرف في التفاؤل وبصفة خاصة حيال الدول الإسلامية هو أكبر خطأ وقع فيه العلمانيون وعلي رأسهم العلماني الأكبر "كمال اتاتورك" الذي أقنع نفسه الوافدة علي تركيا المسلمة من جزر اليونان التي شهدت بواكيره العلمانية اقنع نفسه بطريقته التي لم تأخذ في الاعتبار التيار الديني وفقا لعقيدة الشعب التركي فتصور أنه بمجرد جرة قلم علمانية قد استطاع أن يحول قبلة المسلمين علي أرض تركيا أو كأنه أراد أن يقول إنه بالإمكان تفريغ الشحنة الإيجابية للشعب التركي والمتآصلة في كيانه التاريخي واستبدالها بشحنة علمانية في أي لحظة فارقة وطبقا لسياسة الدولة الجديدة! فالمقصود العلماني عن دراسة مكنونات النفس البشرية التي تميل بطبيعتها الإيمانية إلي اعتناق الأديان والتوحيد حتي قبل ظهور الأديان السماوية وذلك القصور قد أثبت أنه لا مجال للكلام في أي مناسبة نقول فيها عن العلمانية أو فصل نظام الدولة عن الدين بما معناه فصل الدين عن الوجدان العام حتي لو سلك ذلك المعني سلوكا شكليا مثلما فعل العلماني "دوك مال أتاتورك" فألغي اللغة العربية وهي لغة القرآن بعد أن كانت اللغة الرسمية للدولة واستبدلها باللغة التركية.. وقبل أن يخرج علينا السادة العلمانيون كعادتهم يتهموننا بأننا أصحاب اجتهادات نظرية فليفسر لنا سدنة المعبد العلماني سبب الحشد الهائل من القوميين في "أنقرة" الذين نددوا بالاتحاد الأوروبي بعد تعثر محادثات لوكسمبورج ورددوا شعارات مناهضة للاتحاد أهمها "لا نؤمن بالاتحاد الأوروبي"! أليس ذلك الرفض الشعبي العام في تركيا الذي يحمل نبضا إسلاميا هو في حقيقته رفض قاطع للعلمانية الأوروبية المتمركزة في ذلك التحالف المسيحي أو الاتحاد الأوروبي؟! ذلك بعد أن أكد وزير الخارجية الفرنسي "فيليب لوست بلازي" في تصريح استفزازي لتركيا فقال: "إنه لكي تنضم تركيا للاتحاد فإنها مطالبة أولا باستيفاء المعايير الأوروبية وتغيير قوانينها واحترام حقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة وتطبيق الديمقراطية" وقال: إن المفاوضات قد تستمر 15 عاما! تلك هي شروط قوس الأقواس العلماني والاتحاد الأوروبي المسيحي التي يفرضها علي اسماع ليست تركيا فحسب بل يريدها أن تصل إلي عقل وقلب كل مسلم.. وبعد أن استوعب رئيس الوزراء التركي "رجب طيب أردوغان" أبعاد ذلك التصريح من أحد وزراء دول الاتحاد الرافضين لانضمام تركيا إلي الاتحاد الأوروبي والذي تفوق علي رفض النمسا لذلك الانضمام وجه "أردوغان" نداء إلي قادة دول الاتحاد وأعرب عن عدم استعداد أنقرة لتقديم مزيد من التنازلات كما حذر "أردوغان" مجددا من أن موقف الاتحاد الأوروبي سيحدد ما إذا كان أعضاؤه يريدونه لاعبا عالميا أم ناديا مسيحيا؟! حسنا.. بعد أن تذكرنا علي الفور أن حكومة "أردوغان" هي الي تمسكت بتطبيق حكم القضاء العلماني في تركيا الذي أقر بأحقية البرلمان التركي في منع دخول النائبة المحجبة إلي البرلمان وحضور الجلسات.. وفيما بين تصريحات "أردوغان" وحكم محكمة القضاء العلماني في تركيا ينشأ لنا الحق في طرح سؤال: هل ذلك التناقض هو صورة صارخة من صور "الشيزوفرينيا القومية" علي أرض تركيا المسلمة؟.. فتركيا ما بين مطرقة العلمانية وسندان الإسلام تطل برأسها باستطالة نحو الغرب المسيحي ويكاد يمزق الفقرات العنقية للرأس التركية في ذات الوقت التي تثبت فيه أقدامها باتجاه الشرق مما يعرضها للتمزق الأيديولوجي الذي يعرض الهوية التركية لمخاطر غير محسوبة.. فلماذا الإصرار التركي علي الانضمام للاتحاد الأوروبي بذلك الأسلوب الذي اعتقد الاتحاد الأوروبي أنه من وسائل الاسترحام؟! نعتقد أنه للإجابة عن ذلك السؤال لابد بداية من إلقاء نظرة شاملة علي المناخ السياسي لدول الجوار التركي.. صحيح أن تركيا تسعي للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي منذ عام 1965 ولكن التداعيات السياسية علي حدودها قد لمحت مؤخرا تلك المساعي وبشكل مركز.. دون الدخول في تفاصيل تفسيرية لتلك الحالة الحدودية مع تركيا فنكتفي بالإشارة إلي أن تركيا أول من استوعب "الحالة الإيرانية" العامة للثورة الإسلامية التي امتعض منها الآخر "الغربوامريكي" فتعمد فتح الملف النووي الإيراني كذريعة لتقليم أظافر الإسلام السياسي.. كذلك استوعبت تركيا "الحالة العراقية" الواضحة وضوح الشمس الديمقراطية التي نشرت شعاع الحرية الخارق للعراقيين.. وأخيرا المشهد السوري الذي يمر بمرحلة الريبة علي الأجندة الأمريكية المتربصة لسوريا بسبب الدفع الصهيوني المستمر لأمريكا من أجل إلحاق سوريا بمصير العراق في "حرب وكالة ثانية" لصالح إسرائيل في المنطقة حيث بات العرب يسترزقون قوتهم السياسي بنظام "يوم بيوم" ومن نظرة تكاملية عربية موحدة من أجل النفاذ إلي سياسة مستقبلية.. ودليلنا علي ذلك هو: هل فكر العرب يوما في انضمام تركيا إلي الجامعة العربية في عصرها الذهبي من أجل توحيد الصف الإسلامي؟! فما أكثر بكائنا نحن الاعراب علي اللبن المسكوب والفرص الضائعة! أما عن الحالة الداخلية لتركيا وهي من عوامل الدفع الذاتي التركي للارتماء في أحضان قدس الأقداس المسيحي أو الاتحاد العلماني العالمي فنحن نعتقد أن تركيا قد طرحت علي نفسها سؤالا مهما وذلك علي سبيل المثال وليس الحصر ألا وهو: ماذا لو داهم تركيا زلزال قوي يدخره القدر لها في أي وقت؟! فهل يا تري سوف تمتد يد المعونات من الشرق أم من الغرب؟! نعتقد أنه لا تعليق في حالة لو انضمت تركيا إلي الاتحاد الأوروبي ولو بصفة الشريك المميز بدلا من العضوية الكاملة.. تلك الحالة من "الفوبيا التركية" التي أطلت برأسها بعد الحالة الحدودية.. أما الحالة الداخلية كفيلة وحدها بخلق حالة خاصة من القصور الذاتي الحركي لتركيا المسلمة للاتجاه غربا!