سمعت هذه القصة ذات مرة من دبلوماسي كندي حينما حدثني عن علاقة الجوار بين كنداوالولاياتالمتحدة، ولمن لا يعرف فإن كندا هي ثاني دول العالم من حيث المساحة وهي واحدة من الدول الصناعية المتقدمة جدا، وناتجها القومي الإجمالي يزيد بكثير عن كل الناتج القومي الإجمالي لكل الدول العربية حتي بعد ارتفاع أسعار النقط. وفحوي القصة ذات الدلالات السياسية أنه ليس سهلا أن يتجاور الفيل والفأر، علي الأقل بالنسبة للفأر الذي عليه في هذه الحالة أن يعرف كل شيء عن جاره العملاق، متي ينام ومتي يصحو، ومتي يسعد ومتي يحزن، ومتي يجوع ومتي يشبع، ومتي يتقلب علي جانبه الأيسر أو جانبه الأيمن، وساعات صحوه وساعات منامه، وساعات العافية عنده وساعات المرض. وفي كل الحالات فإن وجود الفأر نفسه سوف يتوقف علي المعلومات التي لديه، ومدي معرفته بحركة وسكون هذه الآلة العملاقة من المخلوقات. صحيح أن الفيل ربما لا يحتاج لمعلومات كثيرة عن الفأر، فتوازن القوي بينهما يغنيه كثيرا عن المعرفة، وهو في مجاله الكبير ربما لن يحس كثيرا بذلك الصخب الذي يأتي به الحيوان الضئيل. ولكن الفأر لا توجد لديه هذه الرفاهية فمصيره ووجوده مرتبط ارتباطا كاملا بمدي ما لديه من فهم ومعرفة وقدرة علي التنبؤ والتوقع، فالمسألة بكل المقاييس لا تتحمل أخطاء كبيرة أو صغيرة حتي ولو كان الفيل لا يكف عن ارتكاب الأخطاء والخطايا. هذه هي ذاتها العلاقة بين العالم العربي والغرب، وربما العالم العربي وبعض الغرب، سواء كان أوروبا أو الولاياتالمتحدة أو حتي اليابان أو استراليا، وقبل ارتفاع أسعار النفط الأخيرة فإن الناتج المحلي الإجمالي لكل الدول العربية لم يزد أبدا عن الناتج المحلي الإجمالي لدولة أوروبية متوسطة هي أسبانيا. وبعد ارتفاع أسعار النفط فإن العالم العربي كله ببتروله وأرضه وسمائه وشواطئه وبره وبحره لم يصل بعد إلي الناتج المحلي لإيطاليا التي لا تزيد عن قدم غربية ممتدة إلي داخل البحر الأبيض المتوسط. ومع هذا الفارق الكبير في الحجم أو في الثروة أو القوة بشكل عام فإن العالم العربي لا يكاد يعرف شيئا عن الغرب، كله أو أجزائه، دوله أو مجتمعاته، روابطه وقواه وقدراته، وبالطبع ليس الكثير عن توجهاته وكيف يعمل وكيف يتحرك، ومتي ينام ومتي يستيقظ. ومن المدهش أن العكس هو الصحيح تماما، فالغرب هو الذي يجند قوي كثيرة للمعرفة عن العالم العربي، قواته وقدراته، وجماعته السياسية، وثقافته وأفكاره، وربما لأول مرة في تاريخ الخليقة كان الفيل هو الذي يعرف الكثير بينما كان الفأر هو الغارق في بحر الجهالة. ولكن المعرفة جزء جوهري من مكانة ووجود الفيل الغربي، وبدونها لا يصير الفيل فيلا، بل أنها أساس قدرته علي توسيع مجاله الجغرافي والزمني، فتمتد الرأسمالية الغربية تحت راية العولمة، وتتوسع القيم الغربية تحت بيارق الديمقراطية. وما جري خلال العقود الخمس الماضية لم يكن إلا ترجمة لتلك العلاقة غير القويمة بين الفأر والفيل، فالفأر السريع الحركة والعالي الصوت والكثير الضوضاء ربما يشعر أحيانا بالقدرة علي المشاكسة والمناكفة والتلاعب بأعصاب الفيل، وحتي قد يكون ممكنا توجيه عضة هنا أو عضة هناك. ولكن كل ذلك ينتهي ساعة حركة الفيل حيث تكون خطوات أقدامه مقتلا، وحركة أنيابه مذابح، وتحركات جسده قبضا علي الأنفاس والأرواح. وسواء كان الثائر العربي هو جمال عبد الناصر أو حافظ الأسد أو صدام حسين أو حسن الترابي فإن العلاقة بقيت علي حالها، فلا كان الفأر قادرا علي الصبر والمناورة دون القفز فورا إلي المواجهة، ولا كان الفيل قابلا بالانتظار. وفي مرات عديدة لم يكن مفهوما أبدا لماذا كان ضروريا مواجهة الغرب قبل التمكين للوحدة العربية، أو قبل استكمال العراق لبرنامجها النووي، أو حتي قبل الحفاظ علي وحدة السودان. والجائز أن كل ذلك كان كذلك لأن أحدا لم يعرف الكثير عن الفيل في مقامه ومساره، وفي حلمه وفي غضبه، فكانت الخديعة عندما أغمض العين، وكان الوهم عندما ذهب إلي أهداف أخري يعتقد أنها أكثر أهمية. وحاليا فإن القصة تتكرر بحذافيرها، ولحسن الطالع أن الفأر ليس عربيا هذه المرة وإنما هو إيراني لم يستطع الصبر حتي يتمكن من القدرة النووية، وكما هي العادة كان ضروريا أن يقترب من المواجهة قبل أوان الأوان وقبل أن يعرف بالحجم الحقيقي للفيل، ولا بقدرته علي تلقي وخزة هنا أو وخزة هناك. وكما حدث في كل القصص السابقة فإن الفأر كان مختلفا تماما عن الفأر في القصص الأمريكية التي ولدها والت ديزني بخياله الواسع وكان الفأر فيها يفوز دوما لأنه كان يعرف أكثر مما يعرف القط، وكان مستيقظا عندما ينام القط، وكان عارفا عن مزاج القط ما لا يعرفه عن نفسه. وفي القصص الأمريكي فإن الفارق بين القط والفأر كان فارق معرفة وذكاء وحسن اختيار ساعة المعركة والمواجهة، هذا إذا حدثت علي الإطلاق، فالفأر لا يستعجل مواجهة يمكن تأجيلها، وإذا كان لا بد من حدوثها فإنها تحدث في التوقيت والمكان الذي يتيح له أفضل الظروف للخروج من المعركة ساعة استحكامها !. وفي العالم الواسع لكليلة ودمنة كانت كل الحيوانات تتصارع، وكان الفائز فيها دوما من يعرف الحدود والنواهي، وفي عالم اليوم توجد كثرة من الأمم الصغيرة والكبيرة، والقوية والضعيفة، ولكن سويسرا نجحت في أن تكون أغني الأمم الأوروبية وأكثرها بقاء كدولة رغم وقوعها في وسط قارة تتصارع فيها أفيال كثيرة، وكانت القدرة السويسرية الأعظم هي ألا تقع تحت الأقدام. وفي يوم من الأيام حاولت النمسا أن تكون فيلا من الأفيال من خلال بناء الإمبراطورية النمساوية المجرية، ولكن الفيل لم يكن فيلا حقيقيا وعندما انهارت الإمبراطورية مع الحرب العالمية الأولي تعلمت الدولة الصغيرة جدا في وسط أوروبا كيف تبقي وتعيش مرة أخري بعد أن ابتلعها الفيل الألماني الضخم قبل الحرب العالمية الثانية تحت شعار بناء الرايخ الثالث. واليوم فإن النمسا لا تزيد عن كونها فأرا صغيرا وسط غابة من الأفيال الأوروبية ولكنه فأر عرف كيف يعيش ويتعايش من خلال المعرفة وإدراك الحدود. وبعيدا في آسيا تعيش أفيال كبري تمثلها الصين والهند واليابان وإندونيسيا حيث المساحة والسكان والأسلحة النووية ومعهم نمور آسيوية كثيرة، ومع ذلك فإن الأفيال الآسيوية تعرف الفارق بينها وبين الأفيال العالمية فما كان بها إلا أن خلقت جسور التجارة والاستثمار والمعرفة التكنولوجية. وحينما توصلت الهند وباكستان إلي السلاح النووي فإن أيا منهما لم يعتبر ذلك بداية للمناطحة العظمي، بل كان كلاهما حريصا علي شعور العالم بأمان لا ينتهي. ولم يحدث أن كانت العلاقات الأمريكية الهندية قوية كما هي الآن، ولا كانت باكستان بمثل علاقات التحالف مع الغرب كما هي الآن. وفي كوكب الأرض تتعايش مخلوقات كثيرة بطريقة أو بأخري، ولكن لم توجد طريقة بأفضل من تلك التي يعرف فيها كل طرف حدوده، وتحدث الطامة العظمي دوما عندما لا يعرف طرف حدود القوة أو يوظفها دون هدف معلوم. وفي التاريخ القريب لم تشهد منطقة من مناطق العالم حماقات كما شهدت منطقة الشرق الأوسط، وكلما يدور الزمان دورته يبرز فيها من يخبط علي صدره صارخا طالبا المبارزة. وعندما تحدث المبارزة بلا علم ولا معرفة فإن النتيجة معلومة، وربما لم تنجح أمريكا في تحقيق أهدافها في العراق، وبالتأكيد فإنها لم تنتصر في الحرب، ولكن ما الذي بقي من العراق في النهاية، ومن الذي انتصر علي أية حال ؟!