بات الحديث عن الإصلاح وضرورته قديما بعض الشئ. انهمك المجتمع المصري خلال العام الماضي ومنذ أعلن الرئيس مبارك عن اقتراح تعديل المادة 76 في فبراير 2005 في تناول قضايا الإصلاح. كتبت الصحافة آلاف المواضيع والاخبار خلال العام المنصرم عن الإصلاح، أقامت منظمات المجتمع المدني الندوات وورش العمل لكي تناقش مع النخب المثقفة الحركة الإصلاحية التي باتت علي عتبة باب الدولة المصرية، ظهرت الحركات الاجتماعية في جنبات المجتمع المصري لكي تنادي بما يتصوره المواطنون عن الإصلاح، أفاقت الأحزاب السياسية من ثباتها وتذكرت أن لها دوراً اجتماعياً وسياسياً لكي تقوم به وخرج علينا الوزراء ورجال الدولة بوابل من التصريحات والوعود والبرامج التي تتناول مختلف جوانب مسألة الإصلاح. إن التأجيل في تفعيل الإصلاح يدفع البعض للظن أن الإصلاح في حد ذاته لم يكن في نية النظام المصري ونفوس القائمين عليه. في الواقع، ما يحدث الآن في المجتمع المصري هو إصلاح سياسي مع إيقاف التنفيذ، ومن الواضح أن النظام في مصر لم يكن يبحث عن الإصلاح بل هو في الواقع يبحث عن "نيولوك" سياسي يضفي بعض الحيوية علي ملامحه . "نيو لوك" يغطي بعباءة من الشرعية علي ممارسات سياسية غابت عنها الشفافية. فمما لا شك فيه أن الإطار الخارجي للنظام السياسي المصري قد تغير كثيراً. فالكثير من الأحداث السياسية التي تجري علي الساحة في مصر تحدث لأول مرة وتنبئ بمستقبل سياسي أفضل، وهي نقطة بداية لا يستطيع أحد ان ينكر أهميتها. ولكن مع مرور الوقت وركود المياه في نهر الإصلاح بدأت هذه الأحداث تتشوه وتعكس معاني لم يكن من المفترض أن تتضمنها في المقام الأول. لا احد ينكر ان مصر شهدت اول انتخابات تنافسية علي منصب رئيس الجمهورية وهو حدث جلل وتغيير من شأنه ان يغرس قواعد راسخة للديمقراطية في اسس النظام السياسي المصري، ولكن المحصلة الاصلاحية لهذة الانتخابات كانت اقل بكثير من المرجو. فبعد أن هلل المصريون لفكرة الانتخابات الرئاسية، وانتابهم أخيراً الشعور بأن اصواتهم الانتخابية قادرة علي التأثير في المستقبل السياسي لهذا البلد، جاءت الانتخابات الرئاسية لكي تقمع هذا الشعور وتعيد كل شئ إلي موضعه الأصلي. فرأينا عشرة مرشحين لا نعرف شيئاً عن سبعة منهم وقرأنا برامج انتخابية أقل ما توصف به انها ساذجة. منعت ضوابط التعديل الدستوري مبادرة الاصلاح السياسي التي تمثلت في انتخابات الرئاسة من تحقيق اي نتيجة ملموسة، فكانت المحصلة هي بقاء الوضع علي ما هو عليه من دون ان يشعر اي مصري بحرية الاختيار ومزية الانتخاب. ولهذا عكست الانتخابات الرئاسية قلة حيلة سياسية، وأداء حزبيا هزيلا، وقدرا كبيرا من المراوغة من قبل النظام الذي بحث عن نيولوك سياسي ووجد ضالته في الانتخابات الرئاسية والتعديل الدستوري. اما الانتخابات البرلمانية فحدث ولا حرج، استشرت مظاهر الفساد والبلطجة في الانتخابات التشريعية والتي جرت تحت إشراف قضائي من قبل قضاء غير مستقل ومحدود الصلاحيات وقادتنا هذه الانتخابات الي مفهوم اكثر تشوهاً لعملية النيابة وادت الي الاخلال بمصداقية القضاء لدي الشعب المصري. ولا يختلف الوضع كثيراً فيما يتعلق بقانون الطوارئ وهو احدي أوراق الإصلاح التي قدمتها الحكومة خلال العام الماضي. هللنا كما نهلل دائماً عند سماع التصريحات التي وعدت بإلغاء القانون او البحث عن قانون بديل له يتعامل مع تهديدات الارهاب. ومع مرور الوقت، ماطلت الحكومة في إلغاء القانون وتباطأت في وضع قانون بديل وبررت ذلك بأن البحث مازال مستمراً فيما يخص قانون الارهاب، بالرغم من ان تعديل احدي مواد الدستور وهو أعلي قانون في الدولة لم يستغرق كل هذا الوقت. وفي نهاية المطاف وافق مجلس الشعب علي مد العمل بقانون الطوارئ في أبريل الماضي. مرة أخري، ما حدث مع قانون الطوارئ ليس سوي نيولوك سياسي ادي الغرض منه وذهب إلي حال سبيله فبعد الضجة والكلام والتصريحات ظل المضمون كسابق عهدنا به ولم يطرأ عليه أي تغيير. ولهذا نري أن أساس الإصلاح السياسي موجود بشكل ما، ولكن ما بني علي هذا الأساس من ممارسات سياسية (وهي المؤشر الرئيسي لجدية الاصلاح السياسي) كان باطلاً، وهو ما يدفعنا للاعتقاد ان الحركة الاصلاحية في مصر لم تتخط بعد مرحلة "النيو لوك" حيث انها مازالت متمركزة في الاطر الخارجية للمشكلة من خلال وضع التصورات والمضي قدماً في اصلاحات توضع تحت مسميات ديمقراطية ولكن تفتقر للشفافية المطلوبة لاحداث تغيرات ملموسة. وما يدل أكثر علي استراتيجية النيولوك الإصلاحية التي يتبناها النظام السياسي في مصر هو عزوفه عن الحديث في الجوانب التي تؤثر علي مضمون العملية السياسية في مصر. فغابت الجهود التي ترمي لفك الارتباط شبه الكامل ما بين الدولة والحزب الحاكم والبيروقراطية، وخبت الأصوات التي علت يوماً ما متوعدة بتعديل الدستور او تغييره، وتحولت استقلالية القضاء إلي حركة تظاهرية بشارع عبدالخالق ثروت بعيدة كل البعد عن الإطار الرسمي للإصلاح، وتلاشت من الوجود موضوعات مثل توزيع الموارد والثروة وإصلاح هيكل المؤسسة السياسية. وبناء عليه، صار الحديث عن تفعيل الإصلاح أهم بكثير من الحديث عن الإصلاح نفسه. وإذا كان تفعيل الإصلاح مهماً للحفاظ علي الصورة الجادة للحركة الإصلاحية في مصر، فهو أكثر أهمية للحفاظ علي مستقبل هذا البلد. فبغض النظر عن ماهية الغرض، قام النظام المصري بدفع عجلة التحول الديمقراطي إلي الأمام. وإذا لم ينته المطاف بموجة التحول الديمقراطي إلي ديمقراطية حقيقية (وهو ما يعني ضرورة تفعيل الإصلاح)، فلن يرجع الوضع إلي سابق عهدنا به ففي حالة فشل التحول الديمقراطي ستكون النتيجة نظاماً سياسياً أكثر شمولية من اي عهد مضي، وقد يفضي التحول الديمقراطي غير الكامل إلي حالة من الفوضي والحيرة السياسية تظهر في شكل حكومات متلاحقة تفشل جميعها في توفير الحلول اللازمة للأزمة السياسية، ومن المحتمل أن تكون النتيجة هي تسيد حالة من العنف تتعدي نتائجها حيز الحياة السياسية. فحفاظاً علي قيمة مبادرة الرئيس مبارك في فبراير 2005، واستغلالاً للوعي السياسي الذي بدأ يتبلور في العقل المصري، وتجنباً لعواقب لن يتحمل المجتمع المصري نتائجها، لا مفر من ان نخلع عباءة النيولوك ونمضي قدماً في تفعيل الإصلاح