يحتفل العالم هذه السنة بمرور خمسين سنة علي أول عملية لحفظ السلام قام بها المجتمع الدولي لحماية السلم في إحدي مناطق النزاعات في العالم. ومن المعروف أن هذه العملية حدثت في مصر في أعقاب العدوان الثلاثي عندما قرر مجلس الأمن إرسال قوات الطوارئ الدولية في نوفمبر 1956 للإشراف علي انسحاب القوات الإنجليزية والفرنسية والإسرائيلية، واستمر وجودها في سيناء حتي سنة 1967 عندما طلبت مصر رحيلها قبل فترة قصيرة من العمليات العسكرية لحرب يونيو 1967، كانت الفكرة جديدة، وكذلك الإسم: "قوات حفظ السلام" Peacekeepin. ويرجع الفضل في اختراع الفكرة وفي صك الاسم إلي وزير الخارجية الكندي "ليستر بيرسون" الذي أصبح بعد ذلك رئيسا لوزراء كندا، وحصل علي جائزة نوبل للسلام تكريما له علي هذا الإنجاز. ولم يسبق عملية قوات الطوارئ في سيناء إلا عملية أخري لمراقبة الهدنة العربية-الإسرائيلية في أعقاب حرب 1948، ومازال نشاط مراقبة الهدنة مستمرا حتي وقتنا الحالي لكن لم يطلق عليه وقتها اسم "عملية حفظ سلام". وبشكل عام هناك اتفاق علي أن مصطلح "حفظ السلام" يطلق علي كل العمليات التي تتم بواسطة الأممالمتحدة بما في ذلك العمليات ذات الطابع القتالي المدعومة بقرار من مجلس الأمن مثل عملية طرد العراق من الكويت في 1991، وعمليات حماية الإمدادات الإنسانية خلال الحرب الأهلية في الصومال 1992-1996. وبرغم أن فكرة الحرب قد وُجدت مع لحظة الوجود والوعي البشري الأولي واستمرت بلا توقف حتي وقتنا الحالي، إلا أن مفهوم السلام ظل عصيا علي العقل البشري، وتُرك للتوازن الطبيعي حين تتساوي القوي أو يتعب الناس من الحروب أو أن تسود قوة مهيمنة تقرر فرض السلام علي منطقة معينة أو علي العالم المعمور كله إلي حين. بدأت فكرة "صنع السلام" فقط مع إنشاء الأممالمتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية وبزوغ إرادة جماعية دولية لصنع السلام، وتطورت بعدها المبادرات والأفكار، ومن بينها فكرة التدخل الجماعي لحفظ السلام في منطقة معينة لأسباب إنسانية أو لإدارة نزاع بطريقة تؤدي إلي حله، أو علي الأقل منع اندلاعه مرة أخري. عملية مثل نشر قوات الطوارئ الدولية في سيناء بعد حرب السويس والتي كانت بداية عمليات حفظ السلام الدولية، منحت مصر وإسرائيل حوالي عشر سنين من السلام إلي أن تقرر رحيلها بقرار من مصر، لكن وجود هذه القوات لم يؤد إلي حل مشكلة الصراع العربي-الإسرائيلي. إن جوهر التحول الحقيقي في الفكر الإنساني والناشئ من مفهوم حفظ السلام هو أن تقرر دولة معينة أو مجموعة من الدول تخصيص وتدريب وتسليح قوات عسكرية من أجل فرض السلم أو الحفاظ عليه في منطقة معينة، بعد أن كان السائد هو تجييش الجيوش فقط للحرب أو التهديد بها. وفي الحقيقة لقد كانت الحرب العالمية الثانية هي الشرارة _ أو لنقل الجحيم _ الذي فجر علم "دراسات السلام" ومن يومها أنشأت معاهد للسلام وأكاديميات للسلام، وكما كانت الحرب علما راسخا منذ الأزل صار السلام وصنعه علما له أصوله ونظرياته وجيوشه التي "تحارب" من أجله. منذ العملية الأولي لحفظ السلام في 1956، نفذت الأممالمتحدة حوالي 55 عملية علي مستوي العالم. لكن الملاحظ أن 13 عملية فقط نفذتها الأممالمتحدة خلال حقبة الحرب الباردة، والباقي وهو حوالي 42 عملية حدث بعد انتهائها. وهذا يوضح أن التوازن في القوي الدولية أثناء الحرب الباردة كان كفيلا بفرض السلام علي مناطق كثيرة من العالم أو علي الأقل جمد النزاعات الموجودة. وعندما غاب هذا التوازن خرجت النزاعات الطائفية والعرقية والقومية من تحت الرماد، لتنتشر النزاعات وتتفكك الدول، خاصة في المناطق التي لم تحظ فيها الدولة بتاريخ قديم وتقاليد سياسية راسخة. وكان علي الأممالمتحدة أن تقوم بدورها بالتدخل في تلك النزاعات التي وصلت في بعض الأحيان إلي حد التطهير العرقي والمذابح الجماعية حيث أخرجت الجماعة البشرية أسوأ ما فيها وسادت شريعة الغاب والفوضي. لقد تطور الإطار الفكري والأخلاقي الذي تعمل في إطاره عمليات حفظ السلام بعد انتهاء الحرب الباردة مقارنة بما كان قبلها. خلال الحرب الباردة كان علي قوات حفظ السلام أن تلزم الحياد أثناء قيامها بواجباتها، وألا تتدخل في الصراع لصالح هذا الطرف أو ذاك، وأن تحظي بموافقة الأطراف المتصارعة علي وجودها، وألا تستخدم القوة إلا في حالات الدفاع عن النفس، وأن يقتصر تسليحها علي الأسلحة الخفيفة، وأن يكون هناك اتفاقية لوقف إطلاق النار تعمل علي مراقبتها وتثبيتها. بعض من هذه الشروط تم التحلل منه نتيجة الظروف الجديدة التي طرأت علي العالم بعد سقوط حائط برلين وتفكك الدول وانتشار الحروب الأهلية والمذابح الجماعية والتطهير العرقي، وأصبح الواجب الإنساني يفرض التدخل لحماية الناس من أثار الفوضي وغياب الدولة والقانون. وخلال هذه الفترة برزت فكرة "التدخل الإنساني" Humanitarian Intervention وفكرة "مسئولية الحماية" Responsibility to protect ولم يعد واجب قوات حفظ السلام مجرد حفظه ولكن أحيانا صنعه وفرضه علي بعض مناطق النزاع، ثم العمل بعد ذلك علي إعادة بناء الثقة بين الجماعات وإقامة دعائم النظام السياسي والاقتصادي. والأمثلة التي نجحت فيها قوات حفظ السلام إلي هذه الدرجة المثالية قليلة، مثل عملياتها في موزمبيق (1992-1994) والسلفادور (1991-1995)، وهناك عمليات نجحت قوات حفظ السلام في مجرد وقف الصدام والعنف بدون أن تتقدم إلي مرحلة حل النزاع كما هو حادث في قبرص، فلو رحلت القوات اليوم من قبرص فليس هناك ضمان في أن الصدام لن يعود مرة أخري. وهناك عمليات فشلت تماما مثل عمليات رواندا والصومال لأسباب كثيرة من بينها قلة القوات والعتاد، وغيبة الإرادة الدولية والمحلية علي حل الصراع ودعم السلام. ولا تتوقف عمليات حفظ السلام علي تلك التي تشرف عليها الأممالمتحدة، لكن بعضها تتولاه المنظمات الإقليمية بموافقة من مجلس الأمن مثل الاتحاد الإفريقي أو حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي. وحاليا يقوم بمراقبة تنفيذ بنود معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل قوات دولية متعددة الجنسيات تم تشكيلها وفقا لاتفاقية خاصة بين الدولتين بدون تدخل من الأممالمتحدة. ولمصر دور بارز في عمليات حفظ السلام علي المستوي الدولي. وكثيرا ما ارتدي جنودها الباريهات الزرقاء، وشاركوا قوات من دول أخري في القيام بهذا الواجب النبيل والمشرف. ومعظم العمليات التي شاركت فيها مصر كانت في إفريقيا مثل الكونغو والصومال ورواندا والصحراء الغربية وليبيريا، لكنها شاركت أيضا في عمليات في أوروبا مثل البوسنة والهرسك وجورجيا وسلوفينيا، ولمصر حاليا مراقبين في دارفور بالسودان. وفي كثير من الأحوال لم يكن دور مصر في هذه العمليات هامشيا، بل أرسلت في حالة الكونغو قوات خاصة، وفي حالة الصومال لواء كامل من المشاة، وفي حالة البوسنة كتيبة من المشاة، كما أرسلت قوات بوليس ومراقبين لمراقبة اتفاقيات وقف إطلاق النار، أو لتنظيم الانتخابات المحلية في مناطق النزاعات. وتعطي القوات المسلحة أهمية خاصة لهذه النوعية من المهام لحرصها علي القيام بدور فعال علي مستوي العالم وليس فقط علي مستوي إفريقيا. ومن أجل ذلك أنشأت القوات المسلحة معهدا متميزا لتعليم اللغات الحية، كما تشارك وزارة الخارجية في إدارة "مركز القاهرة للتدريب علي حل النزاعات وحفظ السلام في إفريقيا" تستقبل فيه متدربين من الدول الإفريقية لتجهيزهم لعمليات حفظ السلام بكل جوانبها المختلفة الثقافية والقانونية والعسكرية. ويحرص الرئيس مبارك علي تكريم قوات حفظ السلام المصرية بعد عودتها من مهامها الخارجية، ويمنح تشكيلاتها الأوسمة وكذلك القادة والجنود علي نفس مستوي التكريم الذي يحظي به من أبلوا بلاء حسنا في الدفاع عن أرض الوطن.