قد يلحظ القارئ العزيز الانقلاب الذي أحدثته في ترتيب كلمات الحكمة المأثورة التي اخترتها كعنوان لذلك المقال، ويرجع ذلك في الحقيقة إلي الذي استشعرته طوال الأسابيع الأربعة الأخيرة، وذلك بالنظر لحالة الاحتقان الاجتماعي والارتباك المجتمعي اللتين غلفتا حياتنا طوال هذه الفترة الممتدة، واللتين عبرتا عن نفسيهما بشكل واضح في الأحداث المثيرة المقلقة والمحبطة والمحزنة التي شهدتها منطقة وسط البلد. أعود فأقول إن "الابدال" الذي أدختله علي ترتيب كلمات الحكمة المعروفة "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب"، إنما يعكس وجهة نظري الشخصية، التي تتمحور حول التأكيد أن كل الذي حدث في يوم الخميس الأسود، إنما يدخل مباشرة في إطار ما لا يمكن السكوت عنه، ومن ثم يصبح الكلام عنه وعن مضامينه وآثاره السلبية، والتحذير من الانعكاسات السلبية لذلك كله علي مشروع الإصلاح السياسي في مصر، هو في قيمة "الذهب" أو في مقام الفرض الواجب القيام به. وإذا حاولنا إلقاء إطلالة سريعة علي حقيقة الذي حدث، فلن نستطيع التهوين في وصف ذلك، فالذي حدث هو "أزمة سياسية" بكل ما يحمله ذلك الوصف العلمي، فالموقف المفاجئ وتداعياته في الوضع القائم الخاص بالقضاة وأسلوب التعامل الأمني له، قد هدد بحدوث أزمة مجتمعية مؤسسية حادة وخطيرة سواء علي المستوي المحلي أو الخارجي، والذي استرعي انتباهنا بخصوص إدارة هذه الأزمة (Crisis Management) هو لجوء السلطات المختصة بذلك، إلي أسلوب "الإدارة بالأزمة" (Crisis Provocatin Management by Crisis) الأمر الذي ترتب عليه شيوع الإحساس بالاحتقان والصدام والاحتجاج بشكل عام، وذلك بدلا من العمل الجاد والحثيث لإنهائها، حيث عمدت السلطات للأخذ بسياسة "التمرحل" (Mapping) والتجنب (Avoidance) ومحاولة الضبط (Regulation)، بدلا من تسوية الأزمة وحلها بشكل جذري. وإذا كان ليس بالجديد تكرار القول، إن موضوع أزمة القضاة قد كان موضوعا حاضرا بقوة علي ساحة الاهتمامات الصحفية لكل من الصحافة الخاصة والمستقلة، إلا أن الجديد الذي نتصوره، هو عزوف الصحافة القومية أو الحكومية عن دخول هذه المساحة بشكل واضح وفعال، ولعل ذلك قد أثار انتباه الكثيرين لملاحظة توازي ممارسات تلك الصحف مع قدر الاهتمامات الحكومية أو الرسمية بها، وذلك في ظل مقولة إن كل ما يحدث هو شأن داخلي للقضاة، وينبغي أن يحلوه هم وبأنفسهم ودون أي تدخل.. ومن هنا برز السؤال الذي افتقد الإجابة وأثار في نفس الوقت توترا متواصلا، لدي كل من الرأي العام أو ربما لدي القضاة أنفسهم، ونظرا لأهمية السؤال واستمراره مع عدم توافر الإجابة المقنعة له، في ظل استراتيجية التزام الصمت أولا تعليق (No Comment)، فقد ظهرت علي السطح أسئلة أخري تدور كلها تقريبا في إطار عجز الجميع عن التوصل إلي حسم مشكلة القضاة أو إنهاء أزمتهم بشكل جذري، خصوصا في ظل الصلاحيات الواسعة التي أسبغها الدستور ومنحها لرئيس الجمهورية، حيث نصت المواد 137 و138 من الدستور علي تولي رئيس الجمهورية للسلطة التنفيذية وممارستها علي الوجه المبين في الدستور، كما أن رئيس الجمهورية مخول مع مجلس الوزراء في وضع السياسة العامة للدولة ويشرفان علي تنفيذها علي الوجه المبين في الدستور أيضا، والأمر الأكثر أهمية وارتباطا بالأزمة الحالية، هو ما نص عليه الدستور في المادة 173 حيث نصت علي ما يلي: "يقوم علي شئون الهيئات القضائية مجلس أعلي يترأسه رئيس الجمهورية، ويبين القانون طريقة تشكيله واختصاصه وقواعد سير العمل فيه، ويؤخذ رأيه في مشروعات القوانين التي تنظم شئون الهيئات القضائية". ومن كل ذلك يتضح بما لا يدع مجالا لأي شك، أن السيد رئيس الجمهورية وهو الحكم بين السلطات هو الشخص الأكثر ملاءمة (بحكم الدستور) للتدخل لوضع حد لأزمة القضاة مع السلطة التنفيذية. في علاقة السلطة بجماهيرها، يطرح العديد من الأسئلة المحرجة التي تحاول الجماهير البحث عن إجاباتها عند من بيدهم مقاليد الأمور، ولعل ذلك هو الذي دفع بالدكتور قدري حفني للحديث في مقاله المهم بالأهرام بتاريخ 26/1/2006 (أي منذ ما يزيد علي ثلاثة أشهر)، حول ممارسات هؤلاء المسئولين في بلادنا عادة، والتي أظهرت لحقبة طويلة من الزمن أن السبيل الأيسر لتجنب الحرج في الإجابة عن الأسئلة المحرجة لدي الجماهير، هو مصادرة الأسئلة من المنبع، وذلك من خلال أساليب يعرفها جيدا المتخصصون في علم النفس الإعلامي، مثل "صرف الانتباه" بمعني توجيه الاهتمام الجماهيري إلي أمور أكثر إثارة ولكنها بعيدة عن مواطن الحرج، أو "التعمية" بمعني إسدال ستار كثيف حول كل ما يمكن أن يثير تساؤلا محرجا، أو "التخويف" بمعني ترسيخ فكرة أن مثل تلك التساؤلات المحرجة، إنما تحركها رغبات شريرة لدي أعداء الوطن أو الذين يسعون لتدمير ثوابتنا الوطنية أو مقدساتها الدينية، وإذا ما تمكن سؤال من هنا أو هناك في التسرب عبر تلك الحواجز كانت الاستراتيجية المثلي هي "التجاهل التام". فإذا كانت تلك الاستراتيجية قد حققت في بلادنا ولحقبة طويلة نجاحا ملحوظا، مما أغري السلطة بمحاولة التشبث بها. كما امتد نطاق استخدامها رأسيا ليشمل جميع مستويات السلطة من أعلي قممها إلي أبسط الموظفين التنفيذيين، إلي الحد الذي أصبحت المبادرة فيه بالإجابة المباشرة عن تساؤلات المواطنين كما لو كانت أمرا ينتقص من القدر، كما أصبح التساؤل كما لو كان أمرا يخرج بصاحبه عن مقتضيات الأدب واللياقة، وهكذا أشاع الميل للتكبر والتجاهل، بحيث كاد الأمر وكأنه يشمل الجميع!! وغابت عن الأذهان حقيقيا أن الزمن قد تغير وأن العالم قد دخل عصر ثورة الاتصالات، ومن ثم لم تعد تلك الأساليب علي فاعليتها القديمة مهما كانت التعمية محكمة ومهما كان التخويف مرعبا ومهما كان صرف الانتباه مقتننا، فسوف يتولي آخرون وربما من خارج الحدود، مهمة النبش عن الأسئلة المحرجة وطرحها بل والصراخ بها علي مرأي ومسمع الجميع، ولو لم يقدم المسئول إجابة لها وآثر التجاهل أو الصمت أو أجاب بشكل متعجرف أو غامض، فهنا سوف يسمع الجميع العديد من الإجابات والتفسيرات التي قد لا تكون أكثر حبكة وأشد إقناعا وبصرف النظر عن صدقها أو ملاءمتها. ويستطرد د. قدري حفني مذكرا أن من بين قوانين السلوك الثابتة في علم النفس، ما يؤكد أن الموقف الغامض يثير من القلق والتوتر ما تتفاوت قدرات الأفراد في تحمله. وأن تلك المواقف الغامضة بما تحمله من تحد وإحباط للجماعة، وما تخلفه من مناخ موات لانتشار الشائعات، قد يدفع الجماهير إلي انفجارات عنيفة مدمرة. قد لا تكون محسوبة ومخططة في البداية. ولكنها سرعان ما تجد عادة من يركب الموجة. والخلاصة أن الجماهير دائما تكون في حاجة ماسة لمن يقدم لها تفسيرا شفافا مقنعا لما تعاني منه، وأن حالة الاحتقان والتوتر الناجمة عن التجاهل والتكبر قد تستمر طويلا، ولكنها قد تنفجر فجأة إثر شرارة غير متوقعة، لتتحول إلي عنف تلقائي غير مخطط، قد يجد في غيبة تنظيمات سياسية وطنية، من يدفع به إلي تدمير كل شيء، وهكذا يقول العلم فضلا عن أحداث التاريخ.... وينهي د. حفني حديثه متسائلا: تري ألم يحن الوقت لأن نتكاتف جميعا لهدم جدار الصمت والتكبر؟ تري ألم يحن الوقت لنسائل: هل مازال الصمت مجديا؟ ما نود الإشارة إليه في هذا المجال، هو تذكير من بيدهم أمورنا، بأن تكرار صمتهم وعنادهم في تلبية المطالب الشعبية والمهنية للعديد من جماعات وفئات المجتمع المصري، كما أن غض الطرف وعدم الاهتمام والجدية في حل المشكلات التي باتت تشكل هما يوميا لهؤلاء جميعا، أن كل ذلك لا يمكن النظر إليه إلا في إطار محبط وبرواز حزين يعنون لانتكاسة خطيرة في مشروع الإصلاح الاجتماعي السياسي في مصر، ومن ثم فإن الذي يطفو علي السطح بشكل متكرر من أزمات وتوترات هو في الحقيقة "عرض لمرض" ينبغي أن تتكاتف جهودنا جميعا لمحاصرته وعلاجه قبل أن يفت الأوان، أو قبل أن نعض بنان الندم. لذلك فإننا نتفق تماما مع التحليل الرائع الذي قدمه د. محمد السيد سعيد ب "أهرام" يوم 1/5/2006 والذي حدد فيه إطار أزمة القضاة، بأنه صراع حول صورتين مختلفتين للمستقبل، فهناك من يريد نظاما قضائيا يضمن حكم القانون ويعالج جميع النزاعات الاجتماعية بصور مهنية وفقا لأحدث المعايير العالمية وأكثرها إنسانية وعدالة، وفي المقابل فإن هناك من يريد نظاما قضائيا يسمح بالتلاعب السياسي أو الفئوي أو الطبقي ويكون متحيزا بوجه عام للأقوياء الذين يملكون السلطة والثروة.