تواجه الحكومة الفلسطينيةالجديدة التي شكلتها حركة المقاومة الاسلامية "حماس" ومن ورائها الشعب الفلسطيني الذي انتخبها وأسقط فتح حصارا سياسا واقتصاديا رهيبا في محاولة لدفع حماس الي الاعتراف بإسرائيل والرضوخ لاملاءات "السلام الاسرائيلي". فقد ورثت حماس سلطة خزائنها خاوية ومثقلة بديون تقدر بأكثر من 3.1 مليار دولار بعد فضائح فساد مدوية طالت مسئولين كبارا في السلطة الفلسطينية السابقة. وعلق الاتحاد الأوروبي مساعدات للسلطة الفلسطينية تقدر بمئات الملايين من الدولارات. وحظرت الادارة الامريكية علي رعاياها وشركائها أي تعاملات تجارية مع الحكومة الفلسطينية التي تقودها حماس. وجمدت اسرائيل تحويل عائدات الضرائب والجمارك المستحقة للسلطة الفلسطينية. ومع احكام الحصار ازداد عناد حماس واعلن اسماعيل هنية رئيس الوزراء الفلسطينية ان حكومة حماس لن ترضخ للضغوط ولن تنهار بسبب الحصار المالي من جانب ما وصفه "بتحالف شرير" تقوده الولاياتالمتحدة وقال هنية "سنأكل الزعتر والزيت والزيتون ولن نطأطأ الهامات إلا لله". وأرسل هنية وزير خارجيته محمود الزهار في جولة عربية لجمع الأموال والحصول علي المساعدات الكفيلة بكسر هذا الحصار. ولكن الدول العربية تضغط هي الأخري علي حماس وتطالبها بالاعتراف بالمبادرة العربية التي تنطوي علي الاعتراف بإسرائيل وتقول لحماس ان المبادرة هي السبيل الوحيد للحصول علي دعم سياسي ومالي عربي. فماذا ستفعل حماس؟ والي أي مدي ستستطيع الصمود أمام هذا الحصار الذي احكمت حلقاته؟ والي متي سيستطيع الشعب الفلسطيي تحمل حرب التجويع وهو يعاني من الفقر والبطالة والعزلة والحصار حتي من قبل ان تأتي حماس الي السلطة؟ وكشف وزير المالية الفلسطيني عمر عبد الرازق ان عدد موظفي الحكومة يربو علي 160 الفا معتبرا ان رواتب هؤلاء تشكل العقبة الرئيسية امام الحكومة التي تواجه مقاطعة اسرائيلية ودولية. وقال عبدالرازق ان حجم الرواتب قفز من 70 مليون دولار في يونيو عام 2005 الي 120 مليون دولار في نهاية مارس الماضي. واوضح عبد الرازق انه لم يتبق من ايرادات الخزينة الفلسطينية سوي 30 مليونا شهريا بعد احتجاز اسرائيل مبلغ 60 مليون دولار شهريا من رسوم ضرائب وجمارك تجبيها نيابة عن السلطة الفلسطينية. وقدر الوزير حجم التكاليف الشهرية الاساسية التي يتوجب علي الحكومة توفيرها بحوالي 180 مليون دولار. وحذر مسئولون ومنظمات دولية وانسانية من خطر وقوع كارثة اقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة بسبب تعليق المانحين الرئيسيين الاتحاد الاوروبي والادارة الامريكية المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية. وانشقت روسيا عن شريكيها من الوسطاء الدوليين الاتحاد الأوروبي وواشنطن واعلنت انها وعدت بتقديم مساعدات عاجلة للسلطة الفلسطينية بقيادة حماس في أقرب وقت ممكن. وينقسم الفلسطينيون أنفسهم حول ايجاد مخارج دستورية وقانونية وسياسية من الازمة السياسية والمالية التي يعانونها في اعقاب تشكيل حركة حماس للحكومة الفلسطينية قبل اسبوعين. وتمثلت الازمة في سلسلة من اجراءات العزل الاسرائيلية والامريكية والاوروبية علي الحكومة والشعب الفلسطيني بحجة ان برنامج حماس لا يعترف بحق اسرائيل في الوجود وبالاتفاقات الموقعة مع اسرائيل وقرارات الشرعية الدولية. وفي هذا السياق، يحاول رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي بدا جولة عربية واوروبية، حض دول العالم علي مواصلة الدعم للشعب الفلسطيني. ومن جهتهم بدأ وزراء في الحكومة الفلسطينية جولة تشمل دولا عربية واسلامية للغرض نفسه. الا ان الفلسطينيين منقسمون حول كيفية الخروج من هذه العزلة. فقد طالب سياسيون ومحللون واعلاميون بالعودة الي تشكيل الحكومة الفلسطينية من قبل رئيس السلطة، وهي صيغة كانت قائمة منذ تأسيس السلطة حتي 29 ابريل 2003 عندما تم تعديل القانون الاساسي للسلطة الذي كان ينص علي ان يشكل رئيسها الحكومة الفلسطينية. لكن حكومة حماس رفضت هذه الاقتراحات مؤكدة انها قادرة علي الاستمرار وفك العزلة عن الفلسطينيين. واكد رئيس الحكومة اسماعيل هنية ان حكومته "لن تستسلم لمحاولات عزلها". وقال هنية "لن نستسلم ولن تنجح كل محاولات عزل الحكومة" وتابع "اقول لكل الاطراف ان الخيارات البديلة خطيرة وعلي كل الاطراف ان تدرك ذلك". وكتب حافظ البرغوثي رئيس تحرير صحيفة الحياة الجديدة التي تصدر في رام الله مقالا يقترح فيه علي حماس "الطلب من الرئيس ابو مازن تشكيل الحكومة من جديد لاجتياز العقبات الصعبة التي تضعها اطراف عدة في طريق الحكومة الحالية". واضاف البرغوثي "منذ البدء اقترحنا علي مؤسسة الرئاسة وحركة حماس التوافق علي برنامج حكومي مشترك يتيح لحماس تنفيذ رؤيتها الداخلية ويتيح للرئيس تنفيذ رؤيته الخارجية، حتي لو وصل الامر الي تكليف الرئيس تشكيل حكومة". واوضح انه اقترح ذلك علي محمود عباس "بعد الانتخابات مباشرة". وقال ان الهدف من الاقتراح "تفادي ما يحدث الان لانه يجب عدم ترك الامور بيد بعض مراهقي السياسة من حماس وبعض عواجيز فتح". اما وزير الاعلام السابق نبيل عمرو من قادة فتح فرأي انه "اذا كان لا بد من مبادرة فيجب ان تبادر حركة حماس الي اقتراحها". واضاف "لا بد من اعطاء فرصة اكبر للاخوان في حماس ليجربوا ويجتهدوا لانهم حكومة مسئولة". لكن ابراهيم خريشة القيادي في فتح وعضو المجلس المركزي في منظمة التحرير الفلسطينية اعتبر ان الحل يكمن في العودة الي الصيغة السابقة، اي ان يكون رئيس السلطة هو نفسه رئيس الحكومة. وذكر "بأنه تم تعديل القانون الاساسي واستحداث منصب رئيس الوزراء عندما كان الرئيس الراحل ياسر عرفات محاصرا في مقره برام الله"، موضحا ان "ذلك تم بضغوط دولية واقليمية استجابت لها السلطة حينها حرصا علي المصلحة الوطنية". من هنا، ناشد خريشة "الاخوة في حماس ورئيس الحكومة اسماعيل هنية ان يبادروا هم الي تعديل القانون وفق الصيغة السابقة". ودعاهم في المقابل الي ان "يبقوا هم السلطة التشريعية وسلطة المراقبة علي اداء الحكومة لتحقيق الشفافية والعمل لمصلحة الشعب الفلسطيني". وشدد علي ان مطلبه هذا "ليس انتقاصا من الاخوة في حماس ولكن استجابة للضرورات الوطنية الملحة". وقال يونس الاسطل أحد زعماء حماس وعضو المجلس التشريعي الفلسطيني ان انهيار الحكومة الحالية قد يدفع الجماعة لاستئناف التفجيرات الانتحارية ضد اسرائيل. ويقول محللون انه اذا ما انهارت حكومة حماس بسبب الافتقار الي الاعتمادات فسيزيد ذلك من المصاعب ومن المؤكد ان يفضي الي زيادة كبيرة في انعدام الاستقرار السياسي والاجتماعي. وتقول حماس انها ورثت سلطة خزائنها خاوية ومثقلة بديون تقدر بأكثر من 1.3 مليار دولار. وكثفت حماس والرئيس الفلسطيني محمود عباس النداءات للدول العربية لسد العجز الذي خلفه وقف المساعدات الغربية بعد عدم تمكنها من دفع رواتب 140 الف موظف حكومي في مارس الماضي. وقال مسئولون من حماس ان الاقتصاد الفلسطيني قد ينهار خلال ثلاثة او اربعة اشهر دون المساعدات العربية. وقال عباس في ختام زيارة للمغرب ان الازمة الاقتصادية خانقة وانها وصلت الي حد لايمكن تحمله. وفي نداء نادر علي موقعها علي الانترنت طلبت حماس تبرعات في حساب في بنك مصر الدولي الذي اشتراه بنك سوسيتيه جنرال الفرنسي العام الماضي. ولم يعلق بنك سوسيتيه جنرال علي الامر. وقال مسئول في الجامعة العربية ان حسابا مماثلا كان مفتوحا في فرع القاهرة للبنك العربي ومقره عمان جري اغلاقه. وقالت اسرائيل التي جمدت تحويلات عائدات الضرائب للسلطة الفلسطينية ان حماس يجب الا تلوم الا نفسها. وقال مارك ريجيف المتحدث باسم وزارة الخارجية الاسرائيلية "اذا كانت تتصرف خارج اطار الاعراف الدولية وخارج نطاق السلوك الدولي المقبول فحينئذ لا يمكن ان تكون مفاجأة ان يبدأ المجتمع الدولي في التعامل معها كشيء منبوذ." لكن هنية قال ان الولاياتالمتحدة واسرائيل مخطئتان ان ظنتا أن الحكومة الجديدة ستنهار في غضون أربعة أو ستة اسابيع بسبب قطع المعونات. ويري فريق من الخبراء المحللين ان هناك مفارقات كثيرة تحكم المعادلة الفلسطينية التي أعقبت الانتخابات، إذ مازالت منظمة فتح تتعاطي مع الواقع السياسي الفلسطيني علي أنها الآمر الناهي فيه، وهي لا غيرها من يحق له أن يتحكم بتفاصيل المشهد السياسي داخليا وخارجيا، علي الرغم من استشراء الفساد فيها إضافة إلي خسارتها المهينة في الانتخابات الأخيرة، فيما تمارس حماس دور المعارضة من علي مقاعد الحكومة ذات الخزانة الفارغة، ومازالت تدأب علي انتقاد قرارات السلطة ونقضها وكأنها خارجها! بدورهم، فإن ناخبي حماس سيصبرون، ولكن إلي متي؟ فأهل فلسطين يقطنون مدناً ومخيماتٍ أشبه بمعتقلات، تعج بالبشر والفقر والقهر، ونزاهة النفس ونظافة يد الوزراء الجدد واقتصار فطورهم علي الفول والفلافل في اجتماعاتهم الوزارية لن يحل مشاكل الناس، فطالما أن الخزانة فارغة والأمن بيد من تسببوا بفلتانه وعباس هو الحَكمُ فيما يختلف فيه سدنة السلطة الحقيقيون من فتح ووزراء حماس، والضغوط الداخلية والخارجية ستتصاعد. الواضح ان القوي الدولية لها حساباتها الخاصة في هذا السياق أيضا، وتري أن انقطاع الجزرة عن حكومة حماس ووجود العصا "الإسرائيلية" الغليظة فوق أهل الضفة والقطاع وتأهب فتح ورموز السلطة الحقيقيين للنيل من حركة حماس عند كل حدث، كل هذه الأسباب مجتمعة تولد لدي الولاياتالمتحدة والأوروبيين قناعة بإمكانية ترويض حماس وإرغامها علي الخضوع لرؤيتهم في المنطقة. يساعد علي نجاح هذا التصور غياب البدائل الميدانية الحالية لدي حماس إضافة لبرجماتية خطابها وقبولها باللعبة الديمقراطية التي تجعل مصير أية قضية رهنا بقبول الغالبية، وعند الحاجة الملحة ستستعين باستفتاء شعبي، ما قد يعفي حماس من المسئولية المباشرة عن أية تنازلات محتملة.