تعمد الولاياتالمتحدة يوما تلو الآخر لعسكرة العالم أو عسكرة العولمة وهو الخيار الاستراتيجي الأمريكي الذي يسعي إلي تعويض التدهور في قدراتها علي الاستمرار في المنافسة بالوسائل الاقتصادية وتهدف هذه الاستراتيجية إلي توظيف التفوق العسكري والنووي للاستمرار في الضغط علي العالم بأسره. وفي إطار التوظيف المشار إليه كانت الأنباء المتواترة من وزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون تشير الأيام الماضية إلي خطة جديدة لنشر قوات خاصة في مهمات سرية حول العالم فماذا عن أحدث خطط عسكرة القرن الأمريكية؟ ________________________________________ كشفت صحيفة النيويورك تايمز عن أبعاد هذه الخطة إذ أشارت إلي أن الجيش الأمريكي يستخدم فرقا صغيرة من قوات العمليات الخاصة في عدد متزايد من السفارات الأمريكية لجمع معلومات عن إلارهابيين كما تراهم واشنطن في المناطق غير المستقرة في العالم والاستعداد لمهمات محتملة لشلهم أو اعتقالهم أو قتلهم. ويقول عدد من كبار المسئولين في وزارة الدفاع وضباط في الجيش إن هذا المسعي هو جزء من خطة وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد التي تستغرق عامين لإعطاء الجيش الأمريكي دورا استخباراتيا أكثر حيوية في الحملة ضد الإرهاب. أما عن تفاصيل الخطة فتتلخص في إرسال مجموعات صغيرة من أفراد القوات الخاصة إلي ما يزيد عن 12 سفارة في أفريقيا وجنوب شرق آسيا وجنوب أمريكا وهذه مناطق يعتقد الأمريكيون أن الإرهابيين يعملون أو يخططون فيها للهجمات التي يمكن أن تتعرض لها أمريكا أو يجمعون الأموال أو يبحثون عن ملاذ آمن ومهمتهم الجديدة هي جمع المعلومات للمساعدة في التخطيط لعمليات مكافحة الارهاب ومساعدة الجيوش المحلية علي إدارة مهمات مكافحة الارهاب بنفسها. والتساؤل الذي يطرح ذاته ماذا وراء هذه الخطة؟ المؤكد أن هناك أهدافاً أوسع واشمل في فكر صانع القرار الأمريكي نجد صداها في استراتيجية الامن القومي لعام 2002 وفيها " انه في أعقاب هجمات 11 سبتمبر ينبغي علي أمريكا شن حروب وقائية دورية للدفاع عن نفسها ضد الدول المارقة والإرهابيين الذين يملكون أسلحة دمار شامل وأنها ستفعل ذلك بمفردها إذا دعت الحاجة فهل هذه العناصر الجديدة هي المقدمة الطبيعية للحروب القادمة؟ يلزمنا للإجابة الرجوع إلي تصريح "ريان هنري" نائب مساعد وزير الدفاع للشئون السياسية والذي يقول "إن تهديد الرد الهائل والذي اثبت جدواه في سنوات الحرب الباردة قد لا يكون فعالا في التعامل مع القوي المارقة بقدر ما هو فعال مع المنافسين القريبين". وإن صعوبة المشكلة تزداد بشكل خاص عند التعامل مع المنظمات الإرهابية التي لا يمكن ردعها والتي لا تكترث كثيرا بالبقاء علي قيد الحياة لذا فانه يجب أن نسعي للتوصل إلي آليات مختلفة مضيفا إن البنتاجون يتصل بالأكاديميين وغيرهم من الخبراء من خارج الوزارة للحصول علي أفكار جديدة. والحاصل أن هذه الأفكار تعتمد علي جعل عناصر الخطة الجديدة بمثابة قرون الاستشعار وفرق الاستكشاف التي تسبق ما أطلق عليه في واشنطن منذ فترة "فرق الرد السريعة لمحاربة الإرهاب في العالم" فماذا عن العلاقة بين الخطتين؟ تقول الواشنطن بوست إن مسئولين في البيت الأبيض يدرسون خطة جديدة في مجال مكافحة الإرهاب تسمح لقوات العمليات الخاصة الأمريكية بدخول أي دولة خارجية لتنفيذ عمليات عسكرية دون تعاون واضح أو صريح مع السفير الأمريكي لدي تلك الدولة وتضعف هذه الخطة ولا شك من سلطة السفير الذي يعد أعلي ممثل لواشنطن في الدول المختلفة ويضيف المسئولون في تصريحاتهم أن مهام العمليات الخاصة التي تضمنتها الخطة سوف تتمتع بالسرية ولن يعلم بشأنها سوي عدد قليل من مسئولي الدولة الخارجية التي ستجري بها تلك العمليات. فهل يعني ذلك ان هناك تفويضا عسكريا رئاسيا لوزارة الدفاع الأمريكية علي وجه التحديد للعمل عبر أرجاء العالم؟ وفي سياق الحديث عن الخطة الجديدة يتساءل المرء من الذي يقود أمريكا اليوم؟ هل صناع السياسة؟ ام رجال العسكرية؟ الإجابة تقودنا للقول إن الخطط الجديدة الرامية لتفعيل عمل القوات الأمريكية الخاصة حول العالم قد لاقت رفضا من جانب وزارة الخارجية الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية لانها تقوض سلطات وصلاحيات السفير الأمريكي ومسئولي المخابرات في الإشراف علي الأنشطة العسكرية والمخابراتية التي تقوم بها الولاياتالمتحدة . لكن الواضح أن هناك جماعات أشبه ما تكون بمراكز القوي داخل الإدارة الأمريكية وتتركز في البنتاجون أصبح لها الباع الطويل في تلك العمليات وهي الجماعات المعسكر الصناعي العسكري التي حذر منها الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت ايزنهاور في خمسينات القرن قائلا إنها يمكن أن تقود أمريكا للخطر المبين حال سيطرتها علي خطوط السياسة الأمريكية وهو ما يجري علي الأرض فعليا اليوم. والشاهد هو إن هناك علاقة وثيقة بين جماعات الضغط الخاصة بالأسلحة وبين ما يجري في أسواق وول ستريت وهو ما وصفته بعض وسائل الإعلام الأمريكية بأنه "حرب باردة واسهم ساخنة" ففي تقرير "لستيفن جلين" من النيوزويك يقول "خطط البنتاجون للإنفاق لم تكن سرا في وول ستريت فأسعار أسهم ابرز متعاقدي الدفاع الأمريكيين بدأت في الارتفاع قبل اشهر توقعا للمراجعة الدفاعية لأربع سنوات للبنتاجون والتي نشرت الشهر الماضي". ولعل نظرة سريعة علي استراتيجية الدفاع الأمريكيةالجديدة تؤكد علي حصول البنتاجون علي زيادة أكثر من المتوقع يبلغ معدلها 7% من اجل مشتريات الأسلحة والأبحاث والنتيجة الطبيعية لذلك في سوق الأسهم كانت ارتفاعا بمعدل 19% في شركة لوكهيد التي تنتج الطائرة المقاتلة و 15% في شركة نورثروب التي تنتج المدمرة DDX و 14% في شركة واريثيون التي تقدم للعسكرية الأمريكية أنظمة الاتصال الالكتروني. وتصديقا لتحذير الرئيس ايزنهاور من خطورة المعسكر الصناعي العسكري في داخل البلاد يقول "دودج برينسون" وهو متخصص في الصناعة الدفاعية في شركة DFI INTERNATIONAL وهي شركة استشارات في واشنطن إن السياسة المحيطة بمشتريات الدفاع صعبة بقدر ما كانت عليه من صعوبة علي الدوام ويكمل بقوله إن تحالف المصالح حول هذه البرامج قوي إلي درجة انه حتي وزير الدفاع لا يستطيع السيطرة عليها... ماذا يعني ذلك ؟ يعني بوضوح أن هناك من يدفع الولاياتالمتحدةالأمريكية من داخلها لسلسلة طويلة لن تتوقف من الحروب في العقود القادمة وان خطط القوات الخاصة سواء فرق الاستطلاع منها أو تلك التي تقود عمليات أشبه بغارات الميليشيات إنما تعد المقدمة الطبيعية للاسوأ الذي لم يأت بعد من حروب ومواجهات أوسع واشمل إذ يبدو صحيحا إلي درجة بعيدة.... إن قرارات الولاياتالمتحدة لم تعد في أيدي صناع السياسة بل منتجي أسلحة الدمار والخراب. وواقع الحال يشير إلي أن رامسفيلد و رغم كون تركيزه منصبا علي العراق في الآونة الأخيرة وربما علي إيران التي يستعد لمواجهتها عسكريا حال فشل الطرق الدبلوماسية فانه ليس في وضع يسمح له بمقاومة مطالب مشتريات البنتاجون ففي أكتوبر تراجع عن قرار له في عام 2004 بإلغاء طائرة النقل من طراز سي 130 جيه من لوكهيد مارتن . وفي ديسمبر من نفس العام أوصي رامسفيلد بالتمديد حتي عام 2012 لإنتاج الطائرة F 22 ويقول محللون انه كان هدد بوقفها . ويبقي هذا الأمر علي قيد الحياة مسعي سلاح الجو الأمريكي الرامي إلي زيادة عدد طلبيات F 22 والإبقاء علي الطائرة قيد الإنتاج إلي اجل غير مسمي ومن هذا يتضح أن سلاح الجو يحدوه الأمل في انه طالما يغادر رامسفيلد الإدارة الأمريكية فسيكون بامكانه بعد ذلك أن يقنع الكونجرس بمواصلة صنع طائرة F22 . هل يستنتج من ذلك أمر ما ؟ الإجابة التي لا ريب فيها هي أن استراتيجية القوات الجوية بل وكافة أفرع القوات المسلحة تعد ذاتها لقتال قريب في يوم أخر وان الصلة لا تنقطع أبدا ما بين وول ستريت حيث عاصمة المال العالمية ومصانع إنتاج أدوات العسكرية الحاكمة والمسيطرة علي البيت الأبيض ومن خلفها تحالف شديد التعقيد ما بين المال والدين والعسكرية . وفي النهاية يبقي القول إن الحماس التبشيري لإدارة بوش لمحاربة الإرهاب خطر علي أمريكا وعلي العالم وقد قال وزير الدفاع دونالد رامسفيلد لخريجي كلية وست بوينت في 29 مايو 2004 " بأننا اقرب إلي بداية هذا الصراع مع التمرد العالمي منا إلي نهايته " واستخدام رامسفيلد لعبارة التمرد العالمي كمرادف للإرهاب ينبغي أن يطلق صفارة الإنذار. وما هذه الخطط الني نستمع إليها صباح مساء كل يوم إلا البداية الطبيعية علي الأقل فيما تبقي لجورج بوش من ولاية ثانية في السير قدما في طريق مغاير لرؤية الآباء المؤسسين وحكمتهم فلا واشنطن ولا جيفرسون ولا ماديسون أرادوا للولايات المتحدة السير في هذا الاتجاه ولا رأوا في أنفسهم كما يري بوش رجالا حاصلين علي تفويض من السماء يغذي تعصبه واعتقاده بان كل معارضة لجهوده هي شر في حد ذاته. ومع أن الهيمنة الأمريكية أصبحت أحدي حقائق الحياة المعاصرة وليس لأحد بما في ذلك أمريكا خيار في هذه المسالة .إلا أن المأزق الحقيقي الذي تواجهه الولاياتالمتحدة اليوم حسب رؤية زيجينو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق هو أنها لا تستطيع أو تقدر أن تعود إلي صفوف الانعزاليين وان تنسحب فجأة من العالم ذلك لأنها بهذا ستعرض وجودها الخاص للخطر كما فعلت الصين منذ أكثر من خمسمائة عام والسبب هو أنها لن تكون قادرة علي عزل نفسها عن الفوضي العالمية التي ستعقب ذلك الانسحاب مباشرة فمنذ خمسمائة عام لم يكن العالم علي هذه الدرجة من التداخل والتشابك ولم تكن مفاهيم العولمة والتجارة الدولية المصالح المشتركة علي هذه الصورة. والخلاصة أن الولاياتالمتحدة التي تعيش مرحلة الهيمنة في أعلي درجاتها تعيش كذلك بدايات النهايات الأسطورية وان طال الزمان فسوف تتلاشي السيطرة العالمية لأمريكا إن من خلال التوسع المطلق الساعية إليه اليوم أو من خلال الانسحاب المفاجئ الذي لا تقوي عليه لذا فان العالم سيبقي حقل تجارب للأمريكيين الساعين إلي تحديد شكل الميراث النهائي لهيمنتهم إلا انه ومن أسف شديد يبقي العالم يدفع ثمنا باهظا إن لم تنجح جهود ائتلاف المغايرين حول العالم في مواجهة "القصووية الأمريكية" والتعبير هنا لمحلل السياسة الخارجية الأمريكية "ستيفن سيتانوفيتش" وحتي هذه الساعة يبقي العالم فضاءً مستباحاً لخطط نشر القوات الأمريكية ومعاركها القادمة حول لعالم.