لسنوات طويلة مضت ولسنوات طويلة ستمضي، ستظل المشكلة الفلسطينية هي قضية الحكومات العربية المحورية. ولعل أهم ما يتميز به المحور هو أن الكتلة تدور حوله ما لم يوقفها أحد، وربما تدور بلا غاية في كثير من الأحيان. في هذه الحالة يكون الدوران حول هذا المحور هدفا في حد ذاته. غير أن الطاقة اللازمة للدوران داخل الكتلة ليست أبدية كما في دوران الكواكب مثلا، لذلك كان لابد من طاقة إضافية متجددة ومتنوعة تبذل من أجل استمرار دوران الحكومات حول محورها، بمعني أوضح، بقاء مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي بلا حل إلي الأبد. ومن أجل دوران الكتلة حول محورها، أنشئت الجامعة العربية، ومن أجل استمرارها كان لابد من اجتماع رؤساء الحكومات دوريا في اتفاق صامت علي ما يبدو علي أن تظل هذه المشكلة دائرة إلي ما لا نهاية. هذا هو الملف الوحيد الذي يجب الحرص علي وجوده مغلقا لحماية الحكومات العربية من التحديات التي يفرضها العصر، وأيضا من التحديات التي يفرضها وجود الدولة العبرية بما تمثله من فكر مختلف في الحكم والإدارة. بمعني أكثر وضوحا لإعفاء هذه الحكومات من عبء إقامة الدولة العصرية. وهو أيضا الملف نفسه الذي يجمع حوله ويتحمس له كل أصحاب الفكر الثوري السياسي والديني وكل كارهي حقوق الإنسان علي الجانبين، العربي والإسرائيلي. هذا هو ما يفسر السخط الشديد الذي قوبل به انسحاب إسرائيل من غزة، من المتطرفين العرب والإسرائيليين، كلاهما لا يريد للكتلة أن تتوقف عن الدوران حول محورها، كلاهما لا يريد الدولة العصرية التي تتعامل مع المواطن بوصفه مواطنا أولا وأخيرا. غير أننا سنلاحظ في اجتماع القمة العربية هذه المرة أنه لم يعد يتسم بتلك الإثارة التي كان قادرا علي إحداثها دائما، بل إن عددا كبيرا من الملوك والرؤساء اشتروا أدمغتهم و أخذوها من قصيرها ولم يحضروا الاجتماع. لم تعد الحكومات العربية قادرة علي إرضاء المتطرفين، الأسوأ من ذلك أن الأيام أرغمتهم علي خوض المعارك ضدهم، كما أن مخازنها التي امتلأت دوما بالكلمات القوية الجميلة المؤثرة والتي لا معني لها، لم يعد فيها ما يكفي أو يصلح لمواجهة متغيرات العصر، لقد حاولنا دائما عدم الاعتراف بوجود إسرائيل فانتهي بنا الأمر إلي الوقوع في فخ عدم الاعتراف بالشعب الفلسطيني. الرئيس السادات لم يتفاوض مع إسرائيل بدافع من الرغبة في الاعتراف بوجود إسرائيل، بل لأنه أساسا يعترف بوجود الشعب المصري وحقه في أن يحيا حياة طبيعية بعد طول معاناة، هكذا كان لابد من اغتياله بواسطة جماعة دينية ثورية لمنعه من مواصلة طريقه لحل المشكلة الفلسطينية التي هي الجوهر والمحور،لأن حل هذه المشكلة يطيح بأحلامهم في إقامة الدولة الدينية. هذا هو بالضبط ما أطالب به الحكومة الفلسطينيةالجديدة، ليس أن تعترف بوجود إسرائيل فإسرائيل موجودة ولديها من الوسائل ما يحمي وجودها، بل إن تعترف الحكومة الجديدة بوجود الشعب الفلسطيني وبحقه في الحياة. أعتقد أننا نواجه مشكلة لغة في الأساس، نحن نخشي تسمية الأشياء بأسمائها، هكذا يحدث الاختلاط بين الأفكار السيئة والطيبة في منطقة تمجد الخلط والاختلاط فيما عدا ما بين الجنسين،أعترف أنني فوجئت بخلط وخلطة سياسية جديدة في حكاية أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.. وماذا عن هؤلاء الناس الذين اختارهم الشعب الفلسطيني في انتخابات نزيهة وحرة.. من يمثلون إذن؟ هل هم الممثل الشرعي والوحيد لشعب آخر؟ لا أحد علي وجه الأرض يستطيع أن يوجه لي اتهاما بأنني متعاطف من بعيد أو قريب مع حركة حماس أو أية جماعة دينية ثورية أخري، فموقفي منها جميعها معروف، غير إني لست علي استعداد لإلغاء عقلي لأي سبب من الأسباب، فلسنوات طويلة دفاعا عن اتفاق أوسلو وبالمناسبة، الانتخابات في فلسطين تمت بموجب هذه الاتفاقية كنت أردد ما قررته الحكومات العربية وهو أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني هكذا وعلي الأرض الفلسطينية أقامت المنظمة سلطتها، وليس هذا هو المجال لمناقشة ما فعلته بنفسها وبالشعب الفلسطيني، غير أننا الآن بإزاء مشهد جديد من صنع الشعب الفلسطيني نفسه،لقد اختار جماعة من البشر لتحكمه وتمثله وتتحدث بإسمه وتكون مسئولة عنه وعلينا أن نحترم ذلك، ليس لأسباب أخلاقية أو عاطفية أو لأننا مرغمون علي ذلك بل لأنها الفكرة العملية الوحيدة التي يمكن التعامل معها وبواسطتها علي مستوي المنطقة والعالم من أجل الوصول إلي دولة فلسطينية حرة تعيش في جيرة طيبة مع إسرائيل. في نقاش علي الهواء منذ أكثر من عشرة أعوام مع السيد خالد مشعل في تليفزيون الكويت في ندوة أدارها الأستاذ محمد القحطاني قلت له: أنت تتكلم كثيرا باسم الشعب الفلسطيني.. ما أعرفه هو أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني... اتفضل حضرتك انزل الشارع واحصل علي أصواتهم.. واتكلم باسمهم.. واحكمهم. أليس هذا هو بالضبط ما حدث. لا مفر من الاعتراف أنه علي الحكومة الجديدة في فلسطين أن تعترف بوجود الشعب الفلسطيني، وأن تتعامل مع إسرائيل ومع دول المنطقة والعالم بما يفرضه هذا الوجود. هذا هو أيضا ما يجب أن تقوله لهم الحكومات العربية بوضوح، إن النفاق السياسي والديني لم يمنعا ظهور المسلحين في شوارعنا بل لعله هو ذاته ما أوجدهم، لاأحد يستفيد من الخبث السياسي سوي دعاة الخراب والفوضي، والطريقة الوحيدة التي نساعد بها أبو هنية علي السير في طريق الحكم المدني هي أن نوفر له الغطاء الفكري الذي يهزم به الأجنحة المتشددة في حماس وفي التنظيمات الأخري التي كان الشعب الفلسطيني أول ضحاياها. الشعب الفلسطيني في حاجة إلي السلام بأكثر من حاجته إلي دولارات الجامعة العربية، ونحن جميعا حكومات ومعارضة ونص نص علي يقين من ذلك، وأنا واثق أن هذا هو ما يفكر فيه كل رجال الدولة في المنطقة العربية.. بقي أن يعلنوه في كلمات بسيطة لا تتحمل شتي التفسيرات. كلمة أخيرة، منذ أسبوعين قال الملك عبد الله الثاني ملك الأردن: بعد عامين لن نجد ما نتفاوض عليه. نعم.. إذا بقي الحال علي ما هو عليه لعامين.. ثم اتخذنا قرارا بالتفاوض مع إسرائيل.. لن يكون هناك علي الأرض ما نتفاوض عليه.