بعد توقيع بروتوكول أو اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة، بين مصر وامريكا واسرائيل، والمعروفة اختصارا بالكويز وذلك في يوم 14/12/2004 زاد الحديث حول اعتبار ذلك الاتفاق مجرد خطوة جادة علي طريق التوصل الي اتفاق تجارة حرة مع الولاياتالمتحدةالامريكية، يمكن عن طريقه زيادة الصادرات المصرية الي الاسواق الامريكية، وكضرورة ملحة فرضها ضعف القدرة التنافسية للمنتجات المصرية، التي تواجه منافسة شرسة في ظل التحديات الاقتصادية التي تفرضها ظروف العولمة.. ولم يكن غريبا ان يثمن مجلس الوزراء في اجتماعه برئاسة د. احمد نظيف وقبل موعد توقيع الاتفاقية بستة ايام فقط مزاياها وفوائدها ومكاسبها، والتي اشتملت علي امكانية جذب استثمارات اجنبية جديدة قدرت ايامها بنحو 5 مليارات دولار، وتوفير 250 الف فرصة عمل جديدة، واعطاء دفعة قوية لصادرات مصر من المنسوجات والملابس الجاهزة الي السوق الامريكية بما يساوي نحو 4 مليارات دولار خلال عامين من بدء توقيع الاتفاقية، كما اكد المجلس يومها ان موافقة الجانب المصري عليها قد جاءت لتحقيق عدة اعتبارات اخري تشمل حماية الصادرات المصرية الي الولاياتالمتحدة من المنسوجات من التأثير السلبي الذي كانت ستواجهه بسبب الغاء نظام الحصص الامريكي التي كانت مصر تتمتع بها في السوق الامريكية اعتبارا من أول يناير 2005. علي أية حال، وعلي الرغم من توافر بيانات دقيقة أو تفصيلية عن المزايا النقدية التي وفرتها شروط وظروف الاتفاقية للصادرات المصرية، فان بين ايدينا احصاء صادرا عن غرفة التجارة الامريكية، يظهر لنا ان قيمة صادراتنا من الملابس الجاهزة الي امريكا خلال النصف الاول من عام 2005 وبعد سريان الاتفاقية لم تزد عن نحو 104 ملايين دولار امريكي، وهو رقم متواضع بمقارنته بقيمة الصادرات الاردنية أو التركية مثلا خلال نفس الفترة، والتي بلغت حوالي 04.1 ، 09.1 مليار دولار علي الترتيب الا انه من الانصاف عدم التسرع باصدار حكم قطعي أو نهائي علي هذه التجربة حديثة العهد نسبيا، وذلك اذا اردنا الوثوق من المزايا العديدة التي قيلت قبل واثناء وبعد توقيع الاتفاقية، وذلك علي سبيل الترويج والتسويق الاعلامي والاقتصادي الذي صاحب توقيعها. الا ان الذي قرأناه وسمعناه في الآونة الاخيرة، من تعثر المفاوضات الجارية بهذا الشأن بين الطرفين المصري والأمريكي، قد القي ظلالا كثيفة حول مقاصد وغايات الجانب الامريكي ومطالباته التي لا تنتهي بخصوص تهيئة المناخ وتحسين الاوضاع والاسراع بخطي عمليات وجهود الاصلاح الاقتصادي والسياسي في مصر، وذلك حتي تكون مصر مهيأة أو مستوفية للشروط اللازمة والضرورية لمكافأة مصر اقتصاديا، وتوقيع الاتفاقية معها. لقد لخصت تصريحات المهندس رشيد محمد رشيد وزير التجارة والصناعة عقب عودته من دافوس مؤخرا اسباب تعثر المفاوضات المصرية الامريكية بهذا الشأن، حيث صرح بأنه قد أوضح للجانب الامريكي ممثلا في روبرت زوليك نائب وزيرة الخارجية الأمريكية، وكذلك روبرت بورتمان الممثل التجاري الامريكي ان مصر تري انه يجب ألا يتم الربط بين عقد اتفاق تجارة وبين قضايا الاصلاح السياسي في مصر وان ذلك الاصلاح وان كان يمثل اولوية قصوي للقيادة السياسية المصرية، الا انه في المقابل شأن داخلي ينظمه الدستور والقوانين المصرية، ومذكرا في نفس الوقت بأن ذلك الاتفاق - ان تم فإنه يمثل مصلحة اقتصادية لكل من مصر والولاياتالمتحدةالامريكية ايضا. طغيان السياسة علي الاقتصاد في هذا الاطار يتضح لنا وبما لا يدع مجالا لأي شك، اننا ازاء حالة مثالية لطغيان السياسة علي الاقتصاد، وافتقاد التناغم والتوازن الواجب بينهما، فإذا كنا ندرك بالطبع بانهما وجهان لعملة واحدة، فانه بوسعنا القول ان واشنطن بموقفها، والذي ترجمه قرار الكونجرس الامريكي رقم "284" الصادر في 19 ديسمبر الماضي، وذلك عقب اجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المصرية، انما تعلن عن امتعاضها الواضح من تأخر أو عدم حدوث تقدم ايجابي ومعنوي في العديد من الملفات والقضايا الخاصة بالاصلاح السياسي الداخلي في مصر، لقد كان قرار الكونجرس في ذلك الشأن صريحا واضحا عندما نوه الي المثالب والمخالفات التي شابت تلك الانتخابات، وكذلك عندما ناشد الحكومة المصرية بالالتزام باحترام حقوق الانسان، وان تنفذ مصر جملة الاصلاحات التي وعدت بها القيادة السياسية اثناء الحملة الانتخابية، ولم يقتصر الامر علي ذلك فحسب، بل ان القرار المذكور قد طلب من الرئيس بوش ان يبلغ الحكومة المصرية صراحة بأن استمرار المساعدات الامريكية لمصر، مرهون باحترامها لحقوق الانسان وللاصلاحات السياسية ايضا وقد بلغت حدة اللغة والامتعاض الامريكي مداها عندما قررت واشنطن الغاء زيارة الوفد التجاري المصري التي كانت مقررة في الاسبوع الاخير من شهر يناير الماضي لاستئناف المفاوضات حول منطقة التجارة الحرة بين البلدين. وقد تزامن ذلك تقريبا مع توقيع الولاياتالمتحدة اتفاقا مشابها للتجارة الحرة مع سلطنة عمان. في هذا الصدد، اثبتت الاحداث اللاحقة وجود شرخ واضح وتباين كبير فيما بين الموقفين المصري والامريكي. وقد تأكد ذلك بشكل مثير وفي مدي زمني قصير علي النحو التالي: أولا: في التصريحات المباشرة التي اعلنتها وزيرة الخارجية الامريكية عند زيارتها الاخيرة لمصر، والتي ذكرت خلالها ان مشاوراتها في مصر كانت جيدة جدا بشأن المحادثات المتعلقة باتفاقية الكويز فقط اما فيما يتعلق بشأن البدء بمفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، فلقد اكتفت السيدة الوزيرة رايس بتنبيهنا أو بالتلويح لنا بالمزايا العديدة والنعم الكثيرة التي كانت مصر ستجنيها، لو سمحوا لنا بالبدء في المفاوضات الثنائية معهم، والتي كانت ستؤدي في النهاية للتوقيع علي الاتفاقية المزعومة، والتي وصفتها الوزيرة الامريكية بانها كانت ستحدث فرقا "بالنسبة لحالة الاقتصاد المصري بالطبع". ثانيا: تأكد الشيء نفسه، وبعد حوالي عشرة ايام فقط من زيارة السيدة رايس حيث زار السيد كارلوس جوتيريز وزير التجارة الامريكية مصر، واقتصرت مفاوضاته ومشاوراته مع نظرائه المصريين، علي مجرد اعطاء دفعة قوية للصادرات المصرية للسوق الامريكية، أو زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين، بالاضافة الي توقيع مذكرة تفاهم لتنشيط وتفعيل عمل مجلس الاعمال المصري الامريكي والذي يستعد هذه الايام للتوجه الي الولاياتالمتحدة في اطار الزيارة السنوية التي تقوم بها الغرفة التجارية المصرية والتي يتم تعريفها باسم بعثة طرق الابواب!! "مع تحفظنا الشديد علي هذه التسمية لما تحمله من دلالات مهينة". ما يلفت النظر في الموقف المصري، والذي تبدي في المؤتمر الصحفي الذي عقده الوزير الامريكي مع السيد وزير التجارة والصناعة، هو اعلان الوزير المصري ان اتفاق التجارة الحرة مع الولاياتالمتحدة يتطلب مزيدا من الوقت لتهيئة البيئة التي يجب ان تقوم عليها الاتفاقية لتحقيق مصالح البلدين!! الامر الذي قد يوحي باقتناع الجانب المصري فجأة بالرواية والدفوع الامريكية التي بررت ارجاء بدء التفاوض الخاص بالتوقيع عليها، وان كان الوزير المصري قد جدد رفض مصر لربط العلاقات التجارية بين البلدين بأية اشتراطات اخري لا ترتبط بالتجارة او الاستثمار!! من كل ذلك يتضح، ان الولاياتالمتحدةالامريكية قد وظفت السياسة للجور علي الاقتصاد، ولا يستطيع أي متابع لموجات ارتفاع وانخفاض وتيرة العلاقات المصرية الامريكية، الا ان يقر بأن الذي يحدث امامنا اقتصاديا الآن لا يخرج عن كونه حالة لطغيان السياسة علي الاقتصاد.