كان روبرت كابلان من قلائل لم ينتشوا بالنصر في نهاية الحرب الباردة. ففي 1994، رأي عالما تنهار بعض دوله، مخلفة شعوبها تصارع للبقاء، فيما تقوم الدول العظمي بالسيطرة علي موارد العالم. وكتب كابلان ان الصراع علي الموارد تفاقم حدته الصراعات الاثنية والدينية. وذهبت به نظرته الواقعية الي القول ان السلام شرط العلاقات الدولية المتحضرة، وقال ان السلام يتهدده الخطر، ويتهدد الحضارة تاليا، ما لم تساند الدفاع عن السلام قدرة علي نشر قوات عسكرية تردع المعتاشين من القهر والعنف. ويعتقد كابلان، وغيره من المفكرين الواقعيين، ان الصلة بين السلام واحتمال اللجوء الي القوة هي من السمات الدائمة للعلاقات الانسانية. ويجيب عن السؤال: "من يملك القدرة علي استخدام القوة استخداما فاعلا في الصراعات العالمية القائمة؟" بالقول: الولاياتالمتحدة وحدها تملك قدرة مثل هذه. وليس كابلان وحده علي هذا المذهب الامبريالي. فالمستعمرون الأوروبيون التزموا بالقوة أمن المستعمرات وسلامها ردحا من الزمن. وأمضوا شطرا من تاريخهم يلابسون ثقافات البلدان التي استعمروها، وعقدوا تحالفات متينة بحكامها المحليين، والحق أن أمريكا تفتقد كثيرا من العناصر التي تخولها الاضطلاع بدور قوة مستعمرة. فهي تتمتع بنفوذ تتفاوت قوته بحسب الدول. وبين الوقت والوقت تلوح بنفوذها وبقوتها، وتعمد الي مزيج من العقوبات الاقتصادية والاغراءات. ولكنها لا تحكم مباشرة واحدة من هذه الدول. ويخلص روبرت كابلان من ملاحظته هذه الي ان الامبراطورية الأمريكية هي من دون مستعمرات. والعلاقات الأمريكية بمعظم الدول التي ترابط فيها قواتها ليست علاقات طويلة الأمد، ولا تشبه العلاقات التي أنشأها الفرس والرومان. فإنشاء قواعد عسكرية أمريكية تحكمه مصالحها وسياساتها. وعندما تنقلب القواعد هذه مسألة مرتفعة التكلفة، أو تثير استنكارا شعبيا، تخلي القواعد من غير تردد. وعليه، بالكاد تعقد تحالفا مع الحكام المحليين وتؤدي الي تعزيز النفوذ الامبراطوري، وتمد في عمره. والي ذلك، فالحرب علي الارهاب تقتضي حضورا استخباراتيا قويا، ومهارات لغوية. وهذا ما لا يتمتع به المسئولون العسكريون الكبار في الجيش الأمريكي وثمة فرق كبير بين دور الجيش الأمريكي اليوم، ودور القوات المسلحة الأوروبية في أثناء الحقبة الاستعمارية. فالاستعمار الأوروبي كان تمرينا علي بناء الدولة. وكانت قوات الدول المستعمرة تخطط في سبيل أهداف سياسية علي الأمد الطويل. والقوات الأمريكية تري نفسها، وينظر اليها ضيفا، ولا تسعي في غايات سياسية معروفة. واحتواء الارهاب يفترض مبادرات سياسية واقتصادية علي الأمد الطويل، الي حضور عسكري دائم. وفيما سعي التدخل الأمريكي في أفغانستان الي القضاء علي نظام طالبان، نشهد اليوم اعادة تجمع لقوات هذه الحركة. والمصاعب التي تتعثر بها الولاياتالمتحدة في العراق، ليس مصدرها نقص السلاح أو المهارات، بل ضعف ثقة الشعب العراقي بها. وهذا يستدعي عملا دؤوبا يمتد عقودا وأجيالا. وأرادت ادارة بوش انجازا ديموقراطيا في العراق والحق ان اعتقاد الأمر وهم. فالديموقراطية في بلدان تضم شعوبا منقسمة تؤدي غالبا الي دولة مفتتة. والعراق لا تقسمه الانتماءات الاثنية الدينية وحدها، بل تمزقه كذلك العصبيات العشائرية. وكل عصبية من هذه العصبيات تريد النفط لنفسها. وفي هذا المناخ، تبدو الديموقراطية الليبرالية غاية خيالية، والإرث الوحيد المحتمل للحرب هو بلقنة العراق، وتعزيز الاسلام المتطرف في المنطقة، والمستفيد الأول هو ايران. وقد يكون هذا جل ما يصح توقعه من استراتيجية استعمارية كبيرة ترمي الي تعزيز المصالح الأمريكية. فكابلان يدرك التناقض بين نظرته الي دور أمريكا الاستعماري والواقع الفوضوي. وعززت القيادة السياسية في أمريكا الاعتقاد بأن تحقيق الأهداف السياسية بالقوة علي الأمد القصير، غير ممتنع. الا ان القضاء علي دولة عدوة لا يخمد مقاومة الشعب والانتصار في هذا النوع الجديد من الحرب ينشأ عن توظيف القوة العسكرية في خدمة أهداف سياسية معقولة. فنحن نتقلب في عالم يرتكز سلامه الي التشاور بين قوي عظمي كثرة، والتفكير الواقعي. ولا يمكن احلال الأمن العالمي لا من طريق حملات تصدير الديموقراطية، ولا بالتعلق بسراب امبراطورية هي في طور الاندثار.